هبة قاضي

خطط لكل شيء إلا حياتك

دبس الرمان
دبس الرمان

السبت - 21 مايو 2016

Sat - 21 May 2016

دخلت إلى مكتبي بهدوئها المعتاد. استقبلتها كما يتوجب على موظفة مسؤولة عن خدمات كبار العملاء في بنك أن تستقبل عملاءها، بابتسامة مجاملة وسؤال عما تحتاج، ثم دعوة للجلوس. بدأت بإجراء معاملتها لأفاجأ بها تسألني (مالك اليوم شكلك متضايقة)! وبعد عدد من المناورات المعتادة ما بين إنكاري وإصرارها وجدت نفسي أصارحها بضيقي الشديد من عدم جريان بعض الأمور التي خططت لها بعناية كما كان مفترضا لها، عن شعوري بالإخفاق والفشل والاكتئاب لأنني لا أعلم ما الذي علي عمله الآن، وما الذي علي عمله لباقي العام، وللخمس سنوات المقبلة.

سكتت العميلة قليلا ثم قالت بهدوء وتعاطف: (إنتي تخططي بزيادة)! ثم استطردت في نصحها عن أنه لا يعقل أن نخطط لحياتنا، بل نخطط لأهداف وأشياء نريد تحقيقها على مدى معين، وأن الحياة أكبر، وأروع وأعقد من أن نخطط لها وهي التي سواها الله متغيرة ومتشكلة بحسب أقدارنا وأعمالنا.

مر على هذا الموقف الآن عدد لا بأس به من السنوات، ولكنني لن أنسى ذلك الحمل الثقيل الذي أنزلته تلك الإنسانة الحكيمة عن أكتافي بنصيحتها البسيطة، والذي أنقذتني به من هوسي بالتخطيط ووضع الأهداف من فرط تأثري بدورات التخطيط وكتبه ومحاضراته التي كانت التقليعة الفكرية السائدة في تلك الأيام.

من عجائب زمننا الحالي هو كيفية سيطرة توجه فكري على العالم كل فترة وأخرى. فتجده في الإعلام، وفي أحدث الكتب، ومحاضرات القادة الفكريين، والدورات التدريبية. والتي هدفها الأهم والأكبر هو إشعارك أنك بالتأكيد يجب أن تعتنق هذا الفكر الجديد لتغير حياتك للأفضل وبالتالي تحتاج إلى أن تغير قناعاتك السابقة وحتى طبيعتك النفسية لتواكب كتقليعات «سوق نفسك، العمل الحر، والبحث عن الشغف». المشكلة ليست هنا فالتغير والتشكل الفكري هو إحدى ديناميكيات الحياة. المشكلة هي أن ما نعتنقه اليوم من أفكار ومعتقدات نجد من يصعد غدا ليثبت بالدراسات مفهوما فكريا جديدا هو عكس ما كان بالأمس تماما. تاركين إيانا في قمة الحيرة والتشتت الفكري عما هو صحيح وما هو خاطئ.

أرشدنا رسولنا الكريم بأن خير الأمور أوسطها، وأننا لو قسنا هذا المفهوم على ما يواجهنا اليوم من تيارات وأفكار لتعلمنا أن نتفكر ونتأمل ونتمهل قبل الاندفاع بحماس، أو الإعراض بنقد ونفور. وأنك كإنسان يعمل عقله عليك أن تكون ذكيا بأن تأخذ من كل شيء بمقدار الحد الأعلى من الاستطلاع، والحد الأدنى من الاقتناع، ثم تفسح الوقت لعقلك وقلبك للمسح والإدراك، لتكوين فكره الخاص من بعض هذا والقليل من ذاك.

[email protected]