لماذا لم تسرق يا أبي؟
الثلاثاء - 17 مايو 2016
Tue - 17 May 2016
كانت أغلب الصحف العربية -قبل عقود- توجد بها صفحة تسمّى صفحة الوفيات، ولا أظن أنكم بحاجة لأن أخبركم عما يُنشر في تلك الصفحة، وإن كنت لا أعرف شيئا عن تلك الصفحات سوى تصفحي على عجل لبعض الجرائد القديمة التي يهديها لي أحد أصدقاء السوشال ميديا، ومن أراد تفاصيل أكثر عن تلك الحقبة سأحيله إلى ذاكرة الزميل سماحة السخرية محمد السحيمي (لا زمهره الله)، فقد كان بتلك الحقبة شابا يمتطي كرسي الأحلام والعلم، وطامحا في أن يشارك بصنع أجيال واعية قبل أن يكتشف أن الحياة لا تريد جادا أكثر مما ينبغي، وإن الجدية سُتنهي صاحبها بطريقة ساخرة جدا، فالطموح والاجتهاد والإرادة دون اكتساب مهارة (الفهلوة) ستجعل صاحبها في النهاية مجرد (سولفجيا) مركونا بمكان قصّي عن دروب التربية، لكن ربما يبتسم الحظ لزميلنا السحيمي ليكون ممثلا لهيئة الترفيه لدى وزارة التعليم!
الحديث عن صفحات الوفيات لا علاقة لها بالساخر الأزمل، لكنني تذكرت تلك الصفحات وافتقدتها عندما قرأت خبرا الأسبوع الماضي، ورأيت العديد من الصحف «تورطت» في الخبر ونشرته في صفحة المحليات، فالخبر كان عن استعادة 111 حديقة مسلوبة من أصل 500 في جدة، الخبر يوحي بسخرية مُرة إذ إنه لم يُسبق بـ(لا حول ولا قوة إلا بالله)، ولم يختتم بـ(إنا لله وإنا إليه راجعون)، ما معنى أن يستولي أحدهم على حديقة؟، معناه أنه سرق الأرض والشجرة والثمرة وبهجة الأطفال (ما رأيكم بهذه الصياغة المثالية المؤثرة؟)، الحقيقة أن هذا كلام يُقال في وسائل الإعلام ولغة شاعرية موغلة في الحلم، ما يُقال ولا يكتب أن (سارق) المرافق العامة (ذيب)، والعربي يحترم الذيب ويُجله وينادمه في شجن قصائده حتى وهو يتحين الفرصة ليفتك به، فالذئب لا يمكن أن يكون سارقا، لأنه ببساطة لا يترك أثرا لجريمته، فنحن نعرف أن المسروقة هي حدائق، لكننا لا نعرف السارق، وحتى المسروقات التي استردت لا ندري تم ممن استردادها؟ نتكلم عنها وكأنها أشياء (ضاعت ثم وجدناها)، ثم ننشر تفاصيل الجريمة ناقصة الأركان -بزهو- في صفحة المحليات، ولم نجد حتى الترميز للاسم بـ(س. و.ج) اختصارا للاسم مع التقاط صورة (لعلابي السارق) كما تفعل الصحف مع سارقي السيارات مثلا، وسنفهم أن الاسم اختصارا لـ (سروق وسيع وجه)، السؤال الساخر اللعين يقهقه على طريقة ضحكات العرب الفصحاء في الأفلام التاريخية: السارق استثمر الحديقة لسنوات، ثم استعادتها «الأمانة»، وهو - بكل مسؤولية - لم يعترض في رد الأمانات إلى أهلها، واشترى بقيمة استثماره لها مخططا (أبيض) وستشتري منه مرغما، وستروي حكاية ثرائه لأبنائك، وسيتساءل الأبناء ببراءة: لماذا لم تسرق يا أبي كي نكون مثل (الشيخ) فلان؟
سيندم الأب عندما يتذكر أنه لا يوجد في الصحف مكان لنعي الأخلاق!
[email protected]
الحديث عن صفحات الوفيات لا علاقة لها بالساخر الأزمل، لكنني تذكرت تلك الصفحات وافتقدتها عندما قرأت خبرا الأسبوع الماضي، ورأيت العديد من الصحف «تورطت» في الخبر ونشرته في صفحة المحليات، فالخبر كان عن استعادة 111 حديقة مسلوبة من أصل 500 في جدة، الخبر يوحي بسخرية مُرة إذ إنه لم يُسبق بـ(لا حول ولا قوة إلا بالله)، ولم يختتم بـ(إنا لله وإنا إليه راجعون)، ما معنى أن يستولي أحدهم على حديقة؟، معناه أنه سرق الأرض والشجرة والثمرة وبهجة الأطفال (ما رأيكم بهذه الصياغة المثالية المؤثرة؟)، الحقيقة أن هذا كلام يُقال في وسائل الإعلام ولغة شاعرية موغلة في الحلم، ما يُقال ولا يكتب أن (سارق) المرافق العامة (ذيب)، والعربي يحترم الذيب ويُجله وينادمه في شجن قصائده حتى وهو يتحين الفرصة ليفتك به، فالذئب لا يمكن أن يكون سارقا، لأنه ببساطة لا يترك أثرا لجريمته، فنحن نعرف أن المسروقة هي حدائق، لكننا لا نعرف السارق، وحتى المسروقات التي استردت لا ندري تم ممن استردادها؟ نتكلم عنها وكأنها أشياء (ضاعت ثم وجدناها)، ثم ننشر تفاصيل الجريمة ناقصة الأركان -بزهو- في صفحة المحليات، ولم نجد حتى الترميز للاسم بـ(س. و.ج) اختصارا للاسم مع التقاط صورة (لعلابي السارق) كما تفعل الصحف مع سارقي السيارات مثلا، وسنفهم أن الاسم اختصارا لـ (سروق وسيع وجه)، السؤال الساخر اللعين يقهقه على طريقة ضحكات العرب الفصحاء في الأفلام التاريخية: السارق استثمر الحديقة لسنوات، ثم استعادتها «الأمانة»، وهو - بكل مسؤولية - لم يعترض في رد الأمانات إلى أهلها، واشترى بقيمة استثماره لها مخططا (أبيض) وستشتري منه مرغما، وستروي حكاية ثرائه لأبنائك، وسيتساءل الأبناء ببراءة: لماذا لم تسرق يا أبي كي نكون مثل (الشيخ) فلان؟
سيندم الأب عندما يتذكر أنه لا يوجد في الصحف مكان لنعي الأخلاق!
[email protected]