الأكل متأخرا في الليل يسبب الغباء
الأربعاء - 11 مايو 2016
Wed - 11 May 2016
بهذا العنوان الغريب طالعتنا كثير من الصحف والمواقع تعليقا على بحث علمي نُشر مؤخرا. تقرأ في ثنايا الخبر لتجد أن الدراسة تمت على مجموعة فئران في قفص ضيق داخل بيئة مُحكمة في أحد المختبرات. تتمعن أكثر لتجد أن ما يُقصد بالغباء هو تغيرات (لا نعرف مستواها) في نشاط أحد أجزاء الدماغ المسؤولة عن الذاكرة. تنتظر أقل من 24 ساعة لتجد التغريدة التالية في أحد حسابات «هل تعلم» في تويتر: دراسة أمريكية تثبت أن الأكل في الليل يزيد الغباء (ويُرافق التغريدة صورة مبنى جامعي أو رجل بلحية شعثاء يرتدي معطفا أبيض). ساعات وتصلك التغريدة في 27 جروب واتس اب آخر، حتى تتحوّل هذه «الخبرية» إلى «حقيقة علمية عامة» نستشهد بها بين الحين والآخر.
مع نزعة الجيل نحو العلوم وطفرة الاتصالات في هذا العصر، تَحوّل الحديث عن الدراسات العلمية من مادة جادة تتطلب البحث والتعمق والفضول إلى مادة شعبية نتداولها بكل تسطيح وتسليم. نعم، المنهج العلمي الحديث أداة الإنسان الأولى لسبر أغوار هذا الكون، ولكن ككل شيء حولنا، العلم لديه قابلية واسعة لأن يكون عرضة للاستغلال والتدليس، فالدراسات كأبيات القصيد: فيها الغث والسمين، المستقيم والمتكسّر، الذي يُعلق على الكعبة والذي يُستخدم لسُفرة غَداء. فقبل التسليم لأخبار الدراسات التي تنهمر يوميا، سيكون جيدا لو استطعنا امتحانها عبر عدة معايير:
1) العيّنة:
ويُقصد بها أولئك الذين تمّت عليهم الدراسة. أولا ربما علينا التأكد هل كان المشاركون بشرا أم فئران أم سحالي؟ كم عدد المشاركين في الدراسة؟ وهل هذه العينة تمثل المجتمع الذي نريد تطبيق الدراسة عليه؟ ففي عنوان برّاق آخر في إحدى الصحف قرأت: الدراسات تثبت أنه لا فرق في سعادة الأشخاص المتزوجين عن حب سابق أو عن طريق اتفاق عائلي. بعد فحص دقيق للعيّنة وجدت أنها تتكون من 30 مشاركا فقط لكل نوع من الزواج، وكلهم ينتمون لعِرق «الهنود الحمر». مثل هذه العينّة الضعيفة لا يمكن تعميم نتائجها حتى على مجتمع الهنود الحمر، فضلا عن تعميمها على المجتمعات الأخرى. وكما أن العينة الصغيرة مشكلة، فالعينة الضخمة أيضا تبرز بعض المخاطر. فالعينة التي تبلغ 12 ألف مشارك مثلا، من السهل أن تجد فيها عن طريق الصدفة المحضة 15 نفرا يتشاركون نفس الصفات: كأن يكون وزنهم 110 كجم وأن يكون ماجد عبدالله هو لاعبهم المفضل، وهنا نستطيع الادّعاء بأن احتمالية إصابتك بالسمنة تزيد إذا كان ماجد عبدالله لاعبك المفضّل! لكل دراسة عينة تناسبها ويتم حساب ذلك عن طريق البرامج الإحصائية المتقدمة قبل الشروع في الدراسة، ولكن كعُرف عام، الدراسة الجيدة عادة لا يقل مشاركوها عن 300.
2) تصميم الدراسة:
لكل فرضية ثمّة تصميم مناسب لاختبارها. فلاختبار فعالية أحد الأدوية مثلا قبل تسويقه، يتم تقسيم المشاركين إلى مجموعتين متشابهتين: مجموعة يتم إعطاؤها الدواء بينما يُمنع عن المجموعة الأخرى. ولذا أي أثر صحي على المشاركين بعد ذلك، نستطيع إرجاعه إلى الدواء وليس إلى عامل آخر. هذا التصميم هو الأكثر رصانة في إثبات العلاقة بين المتغيّرات، ولكن لصعوبته وتكلفته يتم اتباع أساليب أخرى، لعلّ أشهرها الدراسة الأفقية cross sectional. في هذا النوع من الدراسات يتم قياس كل متغيرات الدراسة في نفس الوقت، فلا نعرف أيهما جاء قبل الآخر ولا نعرف أيها سبب الآخر، ولعلّ تواجدهما يكون من باب الصدفة فقط. ففي إحدى الدراسات، وجد الباحثون أن مستوى القلق مرتفع لدى المصلّين. هنا يستطيع ملحد مثلا أن يدّعي أن الصلاة تسبّب القلق، بينما يستطيع أحد المؤمنين أن يدعي بأن الإنسان القلِق يلجأ إلى الله لتخفيف معاناته، وكلا الخاتمتين غير صحيحتين لأننا لا نعرف أيهما جاء أولا: القلق أم الصلاة؟ أغلب الدراسات تتبع هذا التصميم لسهولة تنفيذه وكلفته المادية المعقولة وله استخداماته النافعة أحيانا، إلا أنه وكما هو واضح، المساحة حرّة للجميع أن يختار أي خاتمة يريدها من هكذا دراسات.
3) التفسيرات الأخرى المحتملة:
نعيش في عالم معقّد، من النادر أن تجد فيه علاقة واضحة وصريحة بين أي أمرين. كيف تفسّر السعادة مثلا؟ هل نستطيع أن ندّعي ببساطة أن نوع سيارتك يحدّد مستوى سعادتك؟ في الغالب هذا مستحيل وغير منطقي. هناك عوامل أخرى تتداخل بشكل معقّد وتنتج شخصا سعيدا، فأي دراسة تطرح هذا الموضوع يجب أن تأخذ بعين الاعتبار التفسيرات والعوامل الأخرى المحتملة. ففي مثالنا هنا، نوع سيارتك يحددّه دخلك السنوي، وهذا الدخل السنوي يحدّد احتمالية سفرك لإجازة في المالديف أم لا، هذه الرحلة تساهم في سعادتك أيضا. إذن هل الدخل السنوي هو سر السعادة؟ هل تم شرح هذا التفسير الجانبي في «الخبرية» العلمية أم تم اختزال كل شيء بعنوان عريض: الهايلوكس تسبّب الحزن؟
4) الناشر:
في حديث عفوي مع أحد الأستاذة في القِسم، كان يتشكّى لي بأن المجلات العلمية المُحكمة رفضت نشر بحثه لعدم مطابقته أحد الشروط العلمية، حتى لجأ إلى مجلة أقل مستوى تشترط معايير بسيطة ونشر بحثه خلالها. هذه المجلّات العلمية (journals) تتفاوت في جودتها كتفاوت دور نشر الكتب. أحد المقاييس الجوهرية لتقييم كفاءة الدراسات العلمية وجودة نتائجها يكمن في معرفة الناشر. هناك ترتيب معروف ونقاط معينة لكل مجلة في الأوساط العلمية، وسُمعة الباحث تعتمد كثيرا ليس على (عدد) أبحاثه المنشورة فقط بل على الناشر. ففي الحقيقة كون البحث منشورا لا يعني صحّته ورصانته العلمية. السؤال الأهم: أين نُشر؟
قد تتساءل بكل أحقية أن تمحيص كل خبر وكل مقالة فيه مضيعة للوقت واستنزافا للجهد دون ضرورة، بل وقد لا نمتلك الأدوات المعرفية لكشف كل هذا، وهذا صحيح. لكن أعتقد أن مسؤولية القارئ تكمن في انتقاء مصادر أخباره، وفي الحذر من تلقّف المعلومات المعلّبة ونشرها. العلم عظيم في إمكانياته، ولكنه قد يتحوّل إلى صنم وأيديولوجية تستعبد مَلكة التفكير. وأشرُّ الأمور ما جاء مقنّعًا بالدين والعلم!
مع نزعة الجيل نحو العلوم وطفرة الاتصالات في هذا العصر، تَحوّل الحديث عن الدراسات العلمية من مادة جادة تتطلب البحث والتعمق والفضول إلى مادة شعبية نتداولها بكل تسطيح وتسليم. نعم، المنهج العلمي الحديث أداة الإنسان الأولى لسبر أغوار هذا الكون، ولكن ككل شيء حولنا، العلم لديه قابلية واسعة لأن يكون عرضة للاستغلال والتدليس، فالدراسات كأبيات القصيد: فيها الغث والسمين، المستقيم والمتكسّر، الذي يُعلق على الكعبة والذي يُستخدم لسُفرة غَداء. فقبل التسليم لأخبار الدراسات التي تنهمر يوميا، سيكون جيدا لو استطعنا امتحانها عبر عدة معايير:
1) العيّنة:
ويُقصد بها أولئك الذين تمّت عليهم الدراسة. أولا ربما علينا التأكد هل كان المشاركون بشرا أم فئران أم سحالي؟ كم عدد المشاركين في الدراسة؟ وهل هذه العينة تمثل المجتمع الذي نريد تطبيق الدراسة عليه؟ ففي عنوان برّاق آخر في إحدى الصحف قرأت: الدراسات تثبت أنه لا فرق في سعادة الأشخاص المتزوجين عن حب سابق أو عن طريق اتفاق عائلي. بعد فحص دقيق للعيّنة وجدت أنها تتكون من 30 مشاركا فقط لكل نوع من الزواج، وكلهم ينتمون لعِرق «الهنود الحمر». مثل هذه العينّة الضعيفة لا يمكن تعميم نتائجها حتى على مجتمع الهنود الحمر، فضلا عن تعميمها على المجتمعات الأخرى. وكما أن العينة الصغيرة مشكلة، فالعينة الضخمة أيضا تبرز بعض المخاطر. فالعينة التي تبلغ 12 ألف مشارك مثلا، من السهل أن تجد فيها عن طريق الصدفة المحضة 15 نفرا يتشاركون نفس الصفات: كأن يكون وزنهم 110 كجم وأن يكون ماجد عبدالله هو لاعبهم المفضل، وهنا نستطيع الادّعاء بأن احتمالية إصابتك بالسمنة تزيد إذا كان ماجد عبدالله لاعبك المفضّل! لكل دراسة عينة تناسبها ويتم حساب ذلك عن طريق البرامج الإحصائية المتقدمة قبل الشروع في الدراسة، ولكن كعُرف عام، الدراسة الجيدة عادة لا يقل مشاركوها عن 300.
2) تصميم الدراسة:
لكل فرضية ثمّة تصميم مناسب لاختبارها. فلاختبار فعالية أحد الأدوية مثلا قبل تسويقه، يتم تقسيم المشاركين إلى مجموعتين متشابهتين: مجموعة يتم إعطاؤها الدواء بينما يُمنع عن المجموعة الأخرى. ولذا أي أثر صحي على المشاركين بعد ذلك، نستطيع إرجاعه إلى الدواء وليس إلى عامل آخر. هذا التصميم هو الأكثر رصانة في إثبات العلاقة بين المتغيّرات، ولكن لصعوبته وتكلفته يتم اتباع أساليب أخرى، لعلّ أشهرها الدراسة الأفقية cross sectional. في هذا النوع من الدراسات يتم قياس كل متغيرات الدراسة في نفس الوقت، فلا نعرف أيهما جاء قبل الآخر ولا نعرف أيها سبب الآخر، ولعلّ تواجدهما يكون من باب الصدفة فقط. ففي إحدى الدراسات، وجد الباحثون أن مستوى القلق مرتفع لدى المصلّين. هنا يستطيع ملحد مثلا أن يدّعي أن الصلاة تسبّب القلق، بينما يستطيع أحد المؤمنين أن يدعي بأن الإنسان القلِق يلجأ إلى الله لتخفيف معاناته، وكلا الخاتمتين غير صحيحتين لأننا لا نعرف أيهما جاء أولا: القلق أم الصلاة؟ أغلب الدراسات تتبع هذا التصميم لسهولة تنفيذه وكلفته المادية المعقولة وله استخداماته النافعة أحيانا، إلا أنه وكما هو واضح، المساحة حرّة للجميع أن يختار أي خاتمة يريدها من هكذا دراسات.
3) التفسيرات الأخرى المحتملة:
نعيش في عالم معقّد، من النادر أن تجد فيه علاقة واضحة وصريحة بين أي أمرين. كيف تفسّر السعادة مثلا؟ هل نستطيع أن ندّعي ببساطة أن نوع سيارتك يحدّد مستوى سعادتك؟ في الغالب هذا مستحيل وغير منطقي. هناك عوامل أخرى تتداخل بشكل معقّد وتنتج شخصا سعيدا، فأي دراسة تطرح هذا الموضوع يجب أن تأخذ بعين الاعتبار التفسيرات والعوامل الأخرى المحتملة. ففي مثالنا هنا، نوع سيارتك يحددّه دخلك السنوي، وهذا الدخل السنوي يحدّد احتمالية سفرك لإجازة في المالديف أم لا، هذه الرحلة تساهم في سعادتك أيضا. إذن هل الدخل السنوي هو سر السعادة؟ هل تم شرح هذا التفسير الجانبي في «الخبرية» العلمية أم تم اختزال كل شيء بعنوان عريض: الهايلوكس تسبّب الحزن؟
4) الناشر:
في حديث عفوي مع أحد الأستاذة في القِسم، كان يتشكّى لي بأن المجلات العلمية المُحكمة رفضت نشر بحثه لعدم مطابقته أحد الشروط العلمية، حتى لجأ إلى مجلة أقل مستوى تشترط معايير بسيطة ونشر بحثه خلالها. هذه المجلّات العلمية (journals) تتفاوت في جودتها كتفاوت دور نشر الكتب. أحد المقاييس الجوهرية لتقييم كفاءة الدراسات العلمية وجودة نتائجها يكمن في معرفة الناشر. هناك ترتيب معروف ونقاط معينة لكل مجلة في الأوساط العلمية، وسُمعة الباحث تعتمد كثيرا ليس على (عدد) أبحاثه المنشورة فقط بل على الناشر. ففي الحقيقة كون البحث منشورا لا يعني صحّته ورصانته العلمية. السؤال الأهم: أين نُشر؟
قد تتساءل بكل أحقية أن تمحيص كل خبر وكل مقالة فيه مضيعة للوقت واستنزافا للجهد دون ضرورة، بل وقد لا نمتلك الأدوات المعرفية لكشف كل هذا، وهذا صحيح. لكن أعتقد أن مسؤولية القارئ تكمن في انتقاء مصادر أخباره، وفي الحذر من تلقّف المعلومات المعلّبة ونشرها. العلم عظيم في إمكانياته، ولكنه قد يتحوّل إلى صنم وأيديولوجية تستعبد مَلكة التفكير. وأشرُّ الأمور ما جاء مقنّعًا بالدين والعلم!