صناعة التمويل المعطلة
الثلاثاء - 03 مايو 2016
Tue - 03 May 2016
إحدى أجمل تجاربي الشخصية في العمل المصرفي كانت الاشتراك في تسويق سندات تنمية عُمانية في عام 1992 (إن لم تخني الذاكرة)، وكانت الإصدار الأول من نوعة للمصرف المركزي العماني. ولصغر حجم الإصدار فقد تقرر تسويقه عبر المصارف التجارية خليجيا. حينها أخذنا الحماس لفكرة الإصدار بما تجاوز حجم الإصدار بكثير، لدرجة أن وحدتنا المصرفية حققت حجم طلب يوازي 80% من الإصدار، مما اضطر المركزي العماني لرفع حجم الإصدار فقط لاستيعاب الطلب. الأجمل من ذلك ما حدث قبل مغادرتي العمل في ذلك المصرف بفترة قصيرة، حيث استلمنا رسالة جميلة جدا من فرع البنك في مسقط مفادها «تعتزم السلطنة عبر البنك المركزي العماني إصدار سندات تنمية جديدة، وقد كلفنا من قبلهم بسؤالكم عن تصوركم لحجم طلب زبائنكم»، عرفت لاحقا من زملائي أن تسويقهم ما يوازي 70% من ذلك الإصدار. في كلتا المرحلتين كان المستثمر بحرينيا 100%، أي «مال خاص» لأفراد ومؤسسات وظف في تمويل جزئي مباشر لبرامج تنمية في دولة خليجية عبر مؤسسات وطنية وبضمان الدولة صاحبة الإصدار.
ما حداني لاستذكار تلك التجربة هو استمراء القصور في أداء أسواق المال الخليجية المحصورة النشاط في عمليات الاكتتاب المحدودة والتداول (المضاربة) دون إدراك الدور الحقيقي لها في تطوير أدوات تمويل الاقتصاد الوطني. وقطاع خاص بليد، كل همه مطاردة العقود الحكومية والاستثمار في بوتيكات عائلية أو تجارة التجزئة إلا من رحم ربي. وأما بنوكنا المركزية «اسمع كلامك أصدقك وأشوف تشريعاتك أتعجب»، والدليل على ذلك نكبة المدخر الخليجي بعد انهيار السوق المالية العالمية في 2008 بعد كارثة تسليفات الرهن العقاري subprime mortgage crisis عبر سياسية النأي بالنفس لأن البنوك والشركات التي انهارت كانت ترفع شعار الصيرفة والاستثمار الإسلامي. فإن كانت إسلامية بمجالس رقابة شرعية ومن شيوخ لهم مكانتهم في أمور الفقه فلماذا أجازوا المضاربة في أدوات أو مشتقات Derivatives مالية عالية المخاطر عجز حتى من استحدثها على الاتفاق على تعريف موحد لها.
اليوم، قد نكون أمام نقطة تحول غير مسبوقة متمثلة بالرؤية السعودية 2030 التي ستكون بمثابة قاطرة الانتقال الحقيقي لاقتصاد يمتلك قدرة صناعة اقتصاد مستدام يتجاوز حدود المملكة العربية السعودية. وبالرغم من الدلالات السياسية للإعلان عن تلك الرؤية الآن، إلا أن القراءة البنيوية لها هي الأجدى. «ما بعد النفط « ليس ما يجب أن يقلقنا بقدر ما يجب أن تشغلنا ماهية الدولة وموقع المواطنة منها. فحالة الغزل «العفيف» بين الدولة ورأس المال الوطني مربكة لن تنتج زواجا متكافئا فيما بينهما، فعملية إعادة هيكلة الاقتصاد إما بالتمويل أو الاشتراك في تنفيذ مشاريع بنى تحتية كبرى، تستوجب أن تتخلى الدولة عن ممارسة الهيمنة المطلقة ليضطلع رأس المال الوطني بمسؤولياته. فتقديرات الثروة المتراكمة من قبل بيوت الخبرة الدولية لدى الأفراد أو القطاع الخاص الخليجي تقدر بما يتجاوز 2.1 تريليون دولار. فهل سيكون لهذه الثروة دور الشريك الحقيقي في التقنيين أولا وبناء المؤسسات الوطنية ثانيا. وهذه الحقيقة مثبتة في كل تجارب الدول التي صنعت اقتصادا قابلا للاستدامة من النرويج إلى بولندا غربا، ومن اليابان إلى كوريا الجنوبية وسنغافورة شرقا. كذلك يتوجب على رؤوس الأموال الوطنية إدراك أن جنان الأموال الآمنة بما فيها تلك التي في الكاريبي لم تعد آمنة أو بعيدة عن فرض الضرائب مستقبلا.
ضمان النجاح الأوحد هو أن تتحول الدولة لدور الضامن والممول الجزئي لبعض المشاريع التنموية الكبرى مثل ما فعلت دول أخرى مثل المكسيك عندما قررت إنشاء شبكة طرق سريعة لإيصال منتجاتها لأسواق الولايات المتحدة، بشرط عدم تكرار أخطاء المكسيك. فنحن اليوم أمام حاجة ماسة لتنفيذ مشاريع ذات حيوية استراتيجية خليجيا وعربيا. فمشروع جسر الملك سلمان بين السعودية ومصر أو جسر الملك حمد بين السعودية والبحرين يمكن أن تؤسس لهما شركات يكتتب فيها الأفراد ومؤسسات بما في ذلك المحطات النووية لإنتاج الطاقة. ولتحفيز سوق المال الخليجي للتحلل من إرثه، يمكننا خصخصة هيئات مثل هيئة جسر الملك فهد عبر البورصات الخليجية، ليوجه جزء منه لأعمال التوسعة والتطوير المتأخرة والجزء الآخر لإطلاق مشروع جسر الملك حمد. التحلل من منهجيتنا التقليدية هو حجر الأساس في التأسيس لفكر منتم لثقافة العصر أولا، وإدراك استحالة تحقيق الأهداف دون وضع ضوابط تضمن العدالة الاجتماعية وأولها الحد الأدنى للأجور بما يتناسب وحقوق المواطنة في الرعاية والمسؤولية.
[email protected]
ما حداني لاستذكار تلك التجربة هو استمراء القصور في أداء أسواق المال الخليجية المحصورة النشاط في عمليات الاكتتاب المحدودة والتداول (المضاربة) دون إدراك الدور الحقيقي لها في تطوير أدوات تمويل الاقتصاد الوطني. وقطاع خاص بليد، كل همه مطاردة العقود الحكومية والاستثمار في بوتيكات عائلية أو تجارة التجزئة إلا من رحم ربي. وأما بنوكنا المركزية «اسمع كلامك أصدقك وأشوف تشريعاتك أتعجب»، والدليل على ذلك نكبة المدخر الخليجي بعد انهيار السوق المالية العالمية في 2008 بعد كارثة تسليفات الرهن العقاري subprime mortgage crisis عبر سياسية النأي بالنفس لأن البنوك والشركات التي انهارت كانت ترفع شعار الصيرفة والاستثمار الإسلامي. فإن كانت إسلامية بمجالس رقابة شرعية ومن شيوخ لهم مكانتهم في أمور الفقه فلماذا أجازوا المضاربة في أدوات أو مشتقات Derivatives مالية عالية المخاطر عجز حتى من استحدثها على الاتفاق على تعريف موحد لها.
اليوم، قد نكون أمام نقطة تحول غير مسبوقة متمثلة بالرؤية السعودية 2030 التي ستكون بمثابة قاطرة الانتقال الحقيقي لاقتصاد يمتلك قدرة صناعة اقتصاد مستدام يتجاوز حدود المملكة العربية السعودية. وبالرغم من الدلالات السياسية للإعلان عن تلك الرؤية الآن، إلا أن القراءة البنيوية لها هي الأجدى. «ما بعد النفط « ليس ما يجب أن يقلقنا بقدر ما يجب أن تشغلنا ماهية الدولة وموقع المواطنة منها. فحالة الغزل «العفيف» بين الدولة ورأس المال الوطني مربكة لن تنتج زواجا متكافئا فيما بينهما، فعملية إعادة هيكلة الاقتصاد إما بالتمويل أو الاشتراك في تنفيذ مشاريع بنى تحتية كبرى، تستوجب أن تتخلى الدولة عن ممارسة الهيمنة المطلقة ليضطلع رأس المال الوطني بمسؤولياته. فتقديرات الثروة المتراكمة من قبل بيوت الخبرة الدولية لدى الأفراد أو القطاع الخاص الخليجي تقدر بما يتجاوز 2.1 تريليون دولار. فهل سيكون لهذه الثروة دور الشريك الحقيقي في التقنيين أولا وبناء المؤسسات الوطنية ثانيا. وهذه الحقيقة مثبتة في كل تجارب الدول التي صنعت اقتصادا قابلا للاستدامة من النرويج إلى بولندا غربا، ومن اليابان إلى كوريا الجنوبية وسنغافورة شرقا. كذلك يتوجب على رؤوس الأموال الوطنية إدراك أن جنان الأموال الآمنة بما فيها تلك التي في الكاريبي لم تعد آمنة أو بعيدة عن فرض الضرائب مستقبلا.
ضمان النجاح الأوحد هو أن تتحول الدولة لدور الضامن والممول الجزئي لبعض المشاريع التنموية الكبرى مثل ما فعلت دول أخرى مثل المكسيك عندما قررت إنشاء شبكة طرق سريعة لإيصال منتجاتها لأسواق الولايات المتحدة، بشرط عدم تكرار أخطاء المكسيك. فنحن اليوم أمام حاجة ماسة لتنفيذ مشاريع ذات حيوية استراتيجية خليجيا وعربيا. فمشروع جسر الملك سلمان بين السعودية ومصر أو جسر الملك حمد بين السعودية والبحرين يمكن أن تؤسس لهما شركات يكتتب فيها الأفراد ومؤسسات بما في ذلك المحطات النووية لإنتاج الطاقة. ولتحفيز سوق المال الخليجي للتحلل من إرثه، يمكننا خصخصة هيئات مثل هيئة جسر الملك فهد عبر البورصات الخليجية، ليوجه جزء منه لأعمال التوسعة والتطوير المتأخرة والجزء الآخر لإطلاق مشروع جسر الملك حمد. التحلل من منهجيتنا التقليدية هو حجر الأساس في التأسيس لفكر منتم لثقافة العصر أولا، وإدراك استحالة تحقيق الأهداف دون وضع ضوابط تضمن العدالة الاجتماعية وأولها الحد الأدنى للأجور بما يتناسب وحقوق المواطنة في الرعاية والمسؤولية.
[email protected]