أبقريد للذاكرة السعودية
الاثنين - 25 أبريل 2016
Mon - 25 Apr 2016
أحد الأسباب التي تفسر سبب فشل الجيش الأمريكي في تقويض طالبان خلال عقد ونصف من الحرب في أفغانستان وبناء نظام مجتمعي موال أو متعاون هناك، هو غياب الذاكرة والمعرفة المؤسسية بأفغانستان داخل وحدات الجيش. وسبب هذا الغياب هو سياسة الجيش في تدوير الوحدات المرابطة في أي منطقة هناك مرة كل سبعة أشهر واستبدالها بوحدة أخرى مما يتسبب في ضياع المعرفة التي تم تكوينها حول المنطقة وسكانها وعدم نقلها إلى الوحدات الجديدة. فضلا على أن الإطار الزمني القصير يجعل تكوين هذه الذاكرة أمرا مستحيلا في الأساس. يعبر مصطلح الذاكرة المؤسسية عن جملة المعارف والمهارات والعلاقات التي تقوم المنظمة ببنائها أثناء عمل أفرادها من أجل تحقيق هدف مشترك.
وفي حين يمكن شراء أحدث الآلات وتوظيف أفضل المواهب واتباع مستجد الأساليب في الإدارة والقيادة، فإن هذه الذاكرة تبقى غامضة البناء وصعبة الاستنساخ وتعتمد على ظروف محيطها مما يجعلها أساسا هاما للمنافسة وتفوق المنظمات. بل إن ارتباط الذاكرة المؤسسية بمصير المنظمة يتجاوز دور القيادة والموهبة، إذ يعتمد تشكيلها على صهر خبرات ومواهب كل أفراد الفريق لتخرج بثقافة وإطار يمثل هوية جماعة أكبر من دور أي فرد في المنظمة. أحد الأمثلة على أهمية هذه الذاكرة يتمثل في شركة تويوتا التي استطاعت خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي بناء ثقافة إنتاج تجاوزت معدلات جودتها وإتقانها كل ما هو سائد في صناعة السيارات، وفتحت الباب أمام تويوتا لتغزو السوق الأمريكي والعالمي بمنتجات أفضل أداء وأقل سعرا وسط عجز مصنعي السيارات مثل جي إم وفورد عن تفسير سر هذا التفوق. وفي حين كانت الشركات الأمريكية التي تستخدم ذات التقنيات تركز على معدلات جودة مثل 99.9% والذي يعني ألف خطأ في كل مليون قطعة يتم إنتاجها، وصل معدل جودة إنتاج تويوتا إلى 3.4 أخطاء فقط في كل مليون قطعة. والشواهد على تفوق الحكومات والشركات والجيوش بسبب تراكم معارفها وحفاظها على أنماط محددة في التصرف والأداء جيلا بعد جيل يطول سردها.
ففي شركة جي إي هناك ثقافة القيادة، وفي شركة أي بي إم هناك ثقافة الابتكار والأداء، والحكومة البريطانية تعرف بدبلوماسيتها التي تجعل جزيرة صغيرة دائما في مقدمة الأحداث العالمية.. إلخ. وفي لقاء بين ستيف جوبز والرئيس الأمريكي أوباما في 2009 سأل الأخير عما يجب على الحكومة فعله لاستعادة الوظائف التقنية التي تصدرها أبل ومثيلاتها إلى الصين فكانت إجابة جوبز الصادمة بأن هذه الوظائف لن تعود، لأن ميزة الصين لم تعد تكمن في العمالة الرخيصة بل أصبحت تتمثل في المعرفة التقنية التي اكتسبتها المصانع الصينية عبر عقود من جذب الاستثمارات الغربية والتي تجعل المنافسة مع الصين تحديا معرفيا قبل كل شيء. من المفترض أن تكون السعودية قد أعلنت أمس عن رؤيتها للعام 2030 وهي المناسبة التي تبعث على التفاؤل وتستحق الاحتفاء، إذ تعبر عن إرادة سياسية من أجل التغيير، وتضع أعين الشعب والحكومة صوب هدف واحد.
ولكن كما يقال فلا خطة تجتاز أول مواجهة مع الحقيقة. والخطط كما يقول دوايت آيزنهاور لا فائدة منها ولكن التخطيط لا غنى عنه. فمن أجل تطبيق يرقى إلى مستوى الأمل، جدير بنا أن نسأل: ما هي مقومات الذاكرة المؤسسية السعودية التي ستمكننا من تطبيق رؤية التحول الوطني بشكل يضمن تنافسية الاقتصاد، وما هي الذاكرة التي سنعمل على تكوينها بحلول 2030؟ في أذهاننا تعد أرامكو والجبيل وينبع وتنظيم الحج مخازن للإنتاج المعرفي المؤسسي الذي تميزت به السعودية خلال ثمانية عقود منذ تأسيسها. ففي أرامكو نتباهى بضخامة وجودة التنفيذ، وفي الجبيل وينبع نجد نجاحا في زيادة القيمة المضافة للاقتصاد عبر الاستثمار والتنويع، وفي الحج نشاهد عبقرية اختصت بها الجهات الأمنية ومؤسسات الطوافة في إدارة حشد لا مثيل له في مكان وزمن محدودين. وما عدا ذلك، فإن مؤسساتنا البيروقراطية وجامعاتنا ومعظم الشركات لا تشكل سوى مزيج مقار إسمنتية وبشر وموارد مادية لو استبدلتها بغيرها فربما لن يغير ذلك من إنتاجها شيئا، إذ يعد إنتاج المعرفة فيها وبناء الثقافة المؤسسية خيارا وليس شرطا للنجاح.
والدليل على ذلك كان حاضرا في مقابلة بلومبيرج مع ولي ولي العهد التي أشارت إلى مستوى من الهدر في الإنفاق شارف على 100 مليار دولار (ربع الميزانية). وهذه النتيجة لا تستدعي إلقاء اللوم على شخص أو مؤسسة بعينها. بل تعد حصادا طبيعيا للظرف الاقتصادي الذي اختصت به السعودية منذ نشأتها والمتمثل في وجود النفط الذي أسهم في تكوين ذاكرة معرفية قصيرة المدى خاضعة لتحدي العرض والطلب وليس للحاجة إلى المنافسة عبر الابتكار الذي يطرح تحديا يتطلب تفكيرا يتجاوز مجرد التنبؤ بحركة الأسواق وتقرير مستوى الإنتاج. وهذا التأثير لم يتوقف على المؤسسات فقط بل امتد إلى الأفراد الذين يمكن قراءة مستوى قلقهم المفاجئ من المستقبل الاقتصادي عبر المطالعة في سعر النفط لذلك اليوم. الرؤية السعودية لعام 2030 تتلخص في شكل الذاكرة المؤسسية التي سيتم بناؤها على مستوى قطاعات الدولة ومؤسسات القطاع الخاص وتفكير الأفراد وتوجه القيادة خلال الـ14 سنة القادمة. وفي حين تتكون الذاكرة من ثلاثة أجزاء: معرفة ماذا وكيف ومن؟ فإن النجاح في بناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار سيتلخص في ما إذا كانت معرفتنا بـ «كيف» نعالج مشاكلنا ستتجاوز معرفتنا بـ«من» يمكنه أن يحل تلك المشاكل!
[email protected]
وفي حين يمكن شراء أحدث الآلات وتوظيف أفضل المواهب واتباع مستجد الأساليب في الإدارة والقيادة، فإن هذه الذاكرة تبقى غامضة البناء وصعبة الاستنساخ وتعتمد على ظروف محيطها مما يجعلها أساسا هاما للمنافسة وتفوق المنظمات. بل إن ارتباط الذاكرة المؤسسية بمصير المنظمة يتجاوز دور القيادة والموهبة، إذ يعتمد تشكيلها على صهر خبرات ومواهب كل أفراد الفريق لتخرج بثقافة وإطار يمثل هوية جماعة أكبر من دور أي فرد في المنظمة. أحد الأمثلة على أهمية هذه الذاكرة يتمثل في شركة تويوتا التي استطاعت خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي بناء ثقافة إنتاج تجاوزت معدلات جودتها وإتقانها كل ما هو سائد في صناعة السيارات، وفتحت الباب أمام تويوتا لتغزو السوق الأمريكي والعالمي بمنتجات أفضل أداء وأقل سعرا وسط عجز مصنعي السيارات مثل جي إم وفورد عن تفسير سر هذا التفوق. وفي حين كانت الشركات الأمريكية التي تستخدم ذات التقنيات تركز على معدلات جودة مثل 99.9% والذي يعني ألف خطأ في كل مليون قطعة يتم إنتاجها، وصل معدل جودة إنتاج تويوتا إلى 3.4 أخطاء فقط في كل مليون قطعة. والشواهد على تفوق الحكومات والشركات والجيوش بسبب تراكم معارفها وحفاظها على أنماط محددة في التصرف والأداء جيلا بعد جيل يطول سردها.
ففي شركة جي إي هناك ثقافة القيادة، وفي شركة أي بي إم هناك ثقافة الابتكار والأداء، والحكومة البريطانية تعرف بدبلوماسيتها التي تجعل جزيرة صغيرة دائما في مقدمة الأحداث العالمية.. إلخ. وفي لقاء بين ستيف جوبز والرئيس الأمريكي أوباما في 2009 سأل الأخير عما يجب على الحكومة فعله لاستعادة الوظائف التقنية التي تصدرها أبل ومثيلاتها إلى الصين فكانت إجابة جوبز الصادمة بأن هذه الوظائف لن تعود، لأن ميزة الصين لم تعد تكمن في العمالة الرخيصة بل أصبحت تتمثل في المعرفة التقنية التي اكتسبتها المصانع الصينية عبر عقود من جذب الاستثمارات الغربية والتي تجعل المنافسة مع الصين تحديا معرفيا قبل كل شيء. من المفترض أن تكون السعودية قد أعلنت أمس عن رؤيتها للعام 2030 وهي المناسبة التي تبعث على التفاؤل وتستحق الاحتفاء، إذ تعبر عن إرادة سياسية من أجل التغيير، وتضع أعين الشعب والحكومة صوب هدف واحد.
ولكن كما يقال فلا خطة تجتاز أول مواجهة مع الحقيقة. والخطط كما يقول دوايت آيزنهاور لا فائدة منها ولكن التخطيط لا غنى عنه. فمن أجل تطبيق يرقى إلى مستوى الأمل، جدير بنا أن نسأل: ما هي مقومات الذاكرة المؤسسية السعودية التي ستمكننا من تطبيق رؤية التحول الوطني بشكل يضمن تنافسية الاقتصاد، وما هي الذاكرة التي سنعمل على تكوينها بحلول 2030؟ في أذهاننا تعد أرامكو والجبيل وينبع وتنظيم الحج مخازن للإنتاج المعرفي المؤسسي الذي تميزت به السعودية خلال ثمانية عقود منذ تأسيسها. ففي أرامكو نتباهى بضخامة وجودة التنفيذ، وفي الجبيل وينبع نجد نجاحا في زيادة القيمة المضافة للاقتصاد عبر الاستثمار والتنويع، وفي الحج نشاهد عبقرية اختصت بها الجهات الأمنية ومؤسسات الطوافة في إدارة حشد لا مثيل له في مكان وزمن محدودين. وما عدا ذلك، فإن مؤسساتنا البيروقراطية وجامعاتنا ومعظم الشركات لا تشكل سوى مزيج مقار إسمنتية وبشر وموارد مادية لو استبدلتها بغيرها فربما لن يغير ذلك من إنتاجها شيئا، إذ يعد إنتاج المعرفة فيها وبناء الثقافة المؤسسية خيارا وليس شرطا للنجاح.
والدليل على ذلك كان حاضرا في مقابلة بلومبيرج مع ولي ولي العهد التي أشارت إلى مستوى من الهدر في الإنفاق شارف على 100 مليار دولار (ربع الميزانية). وهذه النتيجة لا تستدعي إلقاء اللوم على شخص أو مؤسسة بعينها. بل تعد حصادا طبيعيا للظرف الاقتصادي الذي اختصت به السعودية منذ نشأتها والمتمثل في وجود النفط الذي أسهم في تكوين ذاكرة معرفية قصيرة المدى خاضعة لتحدي العرض والطلب وليس للحاجة إلى المنافسة عبر الابتكار الذي يطرح تحديا يتطلب تفكيرا يتجاوز مجرد التنبؤ بحركة الأسواق وتقرير مستوى الإنتاج. وهذا التأثير لم يتوقف على المؤسسات فقط بل امتد إلى الأفراد الذين يمكن قراءة مستوى قلقهم المفاجئ من المستقبل الاقتصادي عبر المطالعة في سعر النفط لذلك اليوم. الرؤية السعودية لعام 2030 تتلخص في شكل الذاكرة المؤسسية التي سيتم بناؤها على مستوى قطاعات الدولة ومؤسسات القطاع الخاص وتفكير الأفراد وتوجه القيادة خلال الـ14 سنة القادمة. وفي حين تتكون الذاكرة من ثلاثة أجزاء: معرفة ماذا وكيف ومن؟ فإن النجاح في بناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار سيتلخص في ما إذا كانت معرفتنا بـ «كيف» نعالج مشاكلنا ستتجاوز معرفتنا بـ«من» يمكنه أن يحل تلك المشاكل!
[email protected]