عبدالعزيز الخضر

صناعة الرأي الخاص

السبت - 23 أبريل 2016

Sat - 23 Apr 2016

التعبير عن الرأي هو الأهم وليس الموقف، ما هو المحتوى ومدى القدرة على فتح آفاق جديدة حول القضايا التي نتناولها في حواراتنا وصراعاتنا في مواقع التواصل وغيرها. الانشغال بالمواقف وملاحقة الرأي العام على حساب المحتوى أضعف صناعة الرأي الخاص، وتعدديته في قضايانا المحلية، فالمواقف مع أهميتها في التأثير لحشد الرأي العام حول قضية، لكنها لا تطور رؤيتنا حول مواضيع الخلافات ذاتها، فتتحول قضايانا إلى مجموعة فقاعات ولا شيء بعدها!

عندما تتضخم السجالات والخلافات مع مرور السنوات دون أن تنتج وعيا بالأزمات، بقدر ما تفرزه من احتقان شعبوي وترصد ومغالطات فإن هذا يخلق مشكلات أكثر تعقيدا في المجتمع. ليست المشكلة في هذا الهبوط بمستوى الطرح وهو متوقع مع أي صراع، بل تحوله إلى مسار ضخم يحجب ظهور أي رؤى جيدة ذات جهد تحليلي خاص. توجد بعض الآراء ذات المحتوى الجيد لكن لا يتم انتشارها على نطاق واسع إلا إذا كانت تدغدغ ميولا معينة لكتلة جماهيرية، وكثيرا ما يضطر بعض الكتاب والنخب إلى مغازلة هذه الكتل الجماهيرية لضرورات التسويق، ويلجأ كثيرون إلى حيل متعددة من أجل هذا الهدف. لا اعتراض على استخدام أي مهارة في إثارة المتلقي بشرط أن لا يؤثر على مضمون الرأي نفسه، وهذا ما يحدث عادة.

ولأنه لا ينتشر بسرعة إلا الكتابات الصارخة رفضا أو تأييدا وفيها حدة فإن هذا قد يوهم البعض بأن الآراء الأخرى لا أحد يلتفت إليها وأنه لا فائدة منها طالما لا تجد هذا التسويق من الآخرين وردود الفعل المباشرة والسريعة. هذا أحد الأوهام التي ساعدت كثيرا من أصحاب الرؤى الجيدة والتحليلات على ترك هذه المهمة بحجة ضرورة مخاطبة الشارع بلغته، والانضمام إلى اللغة الشعبوية في التحليل والسجال في مختلف القضايا. ما يجب أن يعرفه أصحاب الآراء الخاصة الجيدة أن آراءهم حتى لو لم تثر ضجة لحظية فهي تؤثر على شريحة مهمة دون أن تأتي إليك ردود الفعل فورا، بمعنى أنك تصنع قارئك، فهو يشبهك في أحيان كثيرة.. وعدم وجود ردود الفعل مباشرة، لا يعني أن أحدا لم يطلع عليها وأن لا أحد يستفيد منها.

انتشار هذه الفكرة خطر جدا، خاصة على الكتاب والنخب الجديدة. ومن خلال استقراء قديم لما يكتب أعرف نماذج عديدة للتحولات بالكتابة تحت ضغط هذا العامل لدى بعض النخب، لأنه يشعر بعزلة عندما لا يجد الصخب حوله، فيضطر لمغازلة كتل جماهيرية يعرفها جيدا في الرياضة أو السياسة أو الدين أو القضايا الاقتصادية، فيتحول مع الوقت إلى شخص آخر، لا رأي له إلا ما يرضي هذه الشريحة أو تلك.

كثير من الأفكار المؤثرة التي غيرت الرأي العام جاءت من آحاد وشخصيات ليست لها شعبية كبرى، وتأثر الجمهور بأفكارهم دون أن يشعروا.. وهنا تكمن خطورة المثقف الذي يشتغل بصناعة الرأي والرؤية. إن تأثيره غير ملموس في النطاق اليومي والأسبوعي، لكنه في مدى أوسع يحدث انقلابات فكرية في مجتمعات عديدة. هذا لا يعني أن من يشتغل بصناعة الرأي، عليه أن لا يكون موجودا في تلك السجالات وتوجيه الرأي العام والتأثير في المواقف، لكنه يجب أن يدرك أنها مجال ودور مختلف عن ميدان صناعة الأفكار ومعالجة الإشكاليات.

هناك قضايا لا حصر لها، لا يكون الموقف منها له قيمة فالجميع متفق عليه، لكن تختلف طريقة الحلول والرؤية لها، فالحديث عن السعودة ليس مهما هل تؤيد أو لا تؤيد في هذا المجال أو لا، بقدر ما يهم رؤيتك لمعالجة التعثر الذي يحدث ولا يزال يتكرر منذ عقود. مشكلات السكن ليس المطلوب شحن وإثارة الرأي العام، والتباكي ودغدغة العواطف حولها، بقدر ما يهم كيف نفهم المشكلة وما هي الحلول الممكنة لصاحب القرار، وكذلك مشكلات البطالة والفساد.. وغيرها من مشكلات التنمية. الانشغال بالهجاء الهلامي الذي لا يعطي فكرة ووعيا، ويكشف جانبا جديدا من أسباب المشكلة، عطل تطور الآراء الخاصة وتعددها.

وحتى القضايا التي لها علاقة بالفكر والتحديات الاجتماعية والسياسية وتحديات المستقبل، لأنها بحاجة إلى آراء وجهد تحليلي وفكري يطور أداء النخب الإدارية، والجهات المسؤولة في التعامل مع التحديات تعاني من هذا الهوس بملاحقة الكتل الجماهيرية. ومع انتظار المجتمع في هذه المرحلة التحول إلى نقلة جديدة، كما هو حديث الساعة هذه الأيام عن: رؤية التحول الوطني وملامحها، لمواجهة تحديات وطنية من المفيد أن لا ينجرف الكثير من النخب إلى غوغائية مواقع التواصل التي تطحن في الفراغ حيث لا شيء يعتد به، وتمر الأعوام بعد الأعوام دون أن يتم رصد ملامح هذه التحولات بجدية، وأن نميز بين متطلبات صناعة الرأي العام والخاص.

[email protected]