استبداد التقنية والعلم!
الخميس - 21 أبريل 2016
Thu - 21 Apr 2016
إذا كان التطور التقني امتياز العصر الحديث الأوضح، فإن التقنية المتطورة في هذا العصر لا تفتأ تحاصر الإنسان بالتجدد والتحديث، ولا تنفك عن الانسحاب آنا بعد آن مخلية مكانها لصيغ تقنية أحدث، وأكثر تطورا. ولقد غدا التغيير التقني من أجل التغيير مطلبا، فلا رابط بين تجدد التقنية وبين صلاحيتها للاستعمال، ولا موجب لتحديث تطبيق ما دامت الحاجة إليه قائمة في صيغته الأقدم. إن أجهزة الاتصال وتقنياته تتكاثر وينسخ كل جيل منها سابقه، وموديلات السيارات وماركاتها تلح على الوعي بتكاثرها وتناسخها، وحتى الملابس والمأكولات تتجدد أشكالها وصيغها وموضاتها ووصفاتها، ولا شيء مما يستخدمه الإنسان أو يستهلكه يأخذ صفة ثبات ودوام كما كان الحال عليه في الأزمنة القديمة، الأزمنة التي كان الناس يتوارثون أساليب حياتهم وأدوات عملهم وأشكال وجودهم قرونا متوالية وسحيقة من دون تغيير: حراثة الأراضي الزراعية -مثلا- عن طريق جر الدواب للمحراث.
هذا التطور التقني والتحديث الصناعي، ليس سيئا من وجهة محددة. ويمكن حساب المكتسبات الإنسانية من هذه الوجهة، في ما أضفته المخترعات والتقنيات الحديثة على الحياة من راحة وسرعة وقوة واتساع ورفاهية، وفي اقترانها بدلالة على العلم الذي يؤهل لمزيد من الاختراع والتحديث والتقدم. لكن لا سبيل إلى اليقين طبعا: هل عانى العالم مجاعات في الأزمنة القديمة، تفوق المجاعات التي عاشتها بعض أجزاء عالمنا في العصر الحديث؟! هل عانى الناس حروبا أشد فتكا وإبادة مما عاشته بعض أجزاء العالم في بعض فترات العصر الحديث؟! هل أصبح الناس أكثر سعادة وراحة بال وأغنى بحس الوجود مما كانوا عليه في الأزمنة القديمة؟! ... إلخ. وهذه أسئلة وجودية تقصد الفصل بين تطور الآلة والتقنية في حياة الإنسان، واندراج هذا التطور ضمن هدف وغاية، بحيث لا يقف عند أداتيته ووسائليته التي تحجب الإنسان وتغيبه أكثر من أن تظهره وتجلو عن وجوده وإنسانيته.
الفيلسوف الألماني هايديجر أحد أبرز الذين تنبهوا إلى خطورة التقنية والعقل الأداتي من هذه الوجهة التي تحجب الوجود الإنساني: وجود الكائن الذي يختلف عن وجود الشيء أو وجود الحيوان. لهذا تنطوي فلسفته على التحذير من غلواء العقلنة والتقنية، ومن استبداد العقل العلمي الحديث. إنه لا ينظر إلى التقنية الحديثة بوصفها أداة محايدة، يتوسل بها الإنسان إلى أغراضه، ويتحكم فيها كما يشاء. كلا، التقنية لديه، تملي إرادتها على الإنسان وتأخذه في شرنقته، وبذلك تغدو خطرا يمنع الوجود من الظهور ويحجبه عن الانكشاف، إنها -على حد وصفه لها- «ميتافيزيقيا مكتملة» وهي تحجب الوجود، بقدر ما تنمط الواقع وتكمم ظواهره وتحوله إلى موضوعات قابلة للقياس. والنتيجة هي انسحاب الإنسان من الطبيعة في براءتها، وعذريتها.
ولقد كان هايديجر (1889-1976) يتحدث عن العلم والتقنية في زمن لم يشهد ثورة الاتصالات الالكترونية المعاصرة، ولو شاهد هايديجر جموع الناس المنقطعة، في أماكنهم المختلفة، إلى التحديق في أجهزتهم اللوحية وهواتفهم النقالة، لأدرك أن تحذيره من سجن الآلة يتضاءل أمام تجليات أكثر برهنة على أطروحته وأدعى إلى تصور الخطورة التي حذر منها. ولا بد أن نتفهم هنا منطق هايديجر تجاه التقنية والعلم الحديث من الوجهة التي
لا تخطئ الفهم فترى في ذلك دعوة إلى تكريس التقليد والقدامة ورغبة في استبدالها بما بلغه الإنسان من حداثة، فلم يكن شيء من ذلك في وارده، بل كان يترامى إلى الدلالة على ما يتكشف به وجود الإنسان من دون أن تحجبه هيمنة الأداتية. وغني عن البيان أن أهمية الشعر والفن لديه تجد تبريرها من منطلق هذا السياق نفسه.
[email protected]
هذا التطور التقني والتحديث الصناعي، ليس سيئا من وجهة محددة. ويمكن حساب المكتسبات الإنسانية من هذه الوجهة، في ما أضفته المخترعات والتقنيات الحديثة على الحياة من راحة وسرعة وقوة واتساع ورفاهية، وفي اقترانها بدلالة على العلم الذي يؤهل لمزيد من الاختراع والتحديث والتقدم. لكن لا سبيل إلى اليقين طبعا: هل عانى العالم مجاعات في الأزمنة القديمة، تفوق المجاعات التي عاشتها بعض أجزاء عالمنا في العصر الحديث؟! هل عانى الناس حروبا أشد فتكا وإبادة مما عاشته بعض أجزاء العالم في بعض فترات العصر الحديث؟! هل أصبح الناس أكثر سعادة وراحة بال وأغنى بحس الوجود مما كانوا عليه في الأزمنة القديمة؟! ... إلخ. وهذه أسئلة وجودية تقصد الفصل بين تطور الآلة والتقنية في حياة الإنسان، واندراج هذا التطور ضمن هدف وغاية، بحيث لا يقف عند أداتيته ووسائليته التي تحجب الإنسان وتغيبه أكثر من أن تظهره وتجلو عن وجوده وإنسانيته.
الفيلسوف الألماني هايديجر أحد أبرز الذين تنبهوا إلى خطورة التقنية والعقل الأداتي من هذه الوجهة التي تحجب الوجود الإنساني: وجود الكائن الذي يختلف عن وجود الشيء أو وجود الحيوان. لهذا تنطوي فلسفته على التحذير من غلواء العقلنة والتقنية، ومن استبداد العقل العلمي الحديث. إنه لا ينظر إلى التقنية الحديثة بوصفها أداة محايدة، يتوسل بها الإنسان إلى أغراضه، ويتحكم فيها كما يشاء. كلا، التقنية لديه، تملي إرادتها على الإنسان وتأخذه في شرنقته، وبذلك تغدو خطرا يمنع الوجود من الظهور ويحجبه عن الانكشاف، إنها -على حد وصفه لها- «ميتافيزيقيا مكتملة» وهي تحجب الوجود، بقدر ما تنمط الواقع وتكمم ظواهره وتحوله إلى موضوعات قابلة للقياس. والنتيجة هي انسحاب الإنسان من الطبيعة في براءتها، وعذريتها.
ولقد كان هايديجر (1889-1976) يتحدث عن العلم والتقنية في زمن لم يشهد ثورة الاتصالات الالكترونية المعاصرة، ولو شاهد هايديجر جموع الناس المنقطعة، في أماكنهم المختلفة، إلى التحديق في أجهزتهم اللوحية وهواتفهم النقالة، لأدرك أن تحذيره من سجن الآلة يتضاءل أمام تجليات أكثر برهنة على أطروحته وأدعى إلى تصور الخطورة التي حذر منها. ولا بد أن نتفهم هنا منطق هايديجر تجاه التقنية والعلم الحديث من الوجهة التي
لا تخطئ الفهم فترى في ذلك دعوة إلى تكريس التقليد والقدامة ورغبة في استبدالها بما بلغه الإنسان من حداثة، فلم يكن شيء من ذلك في وارده، بل كان يترامى إلى الدلالة على ما يتكشف به وجود الإنسان من دون أن تحجبه هيمنة الأداتية. وغني عن البيان أن أهمية الشعر والفن لديه تجد تبريرها من منطلق هذا السياق نفسه.
[email protected]