منى عبدالفتاح

تجربة حديثة في حبّ عذريّ قديم

الخميس - 21 أبريل 2016

Thu - 21 Apr 2016

لا نملك إلا أن ندخل رسائل بعض أديبات القرن العشرين في خانة الأدب الخالد، وذلك لما توفر فيها من أشكال الإبداع. ففي خطاب الأديب ليس كما في خطاب غيره تكمن قيمة فنية وأدبية عالية تنضح حيوية فيما بين السطور. وقدسية الرسالة تجعل القارئ يتعامل مع بساطة لغتها برضى كبير ومع تعقيداتها برقة متناهية، حيث إنّ اللغة التي تكتب بها وإن لم تخل من ترميز فهي لا تحتمل الشرح بأكثر مما حوت، خاصة إذا استبطنت ما هو ذاتي وشخصي. فالنقاد الذين تعاملوا مع رسائل أدباء القرن العشرين في العالم العربي كانوا على درجة من الإنصاف بحيث لم يفرغوا هذه الرسائل من ظروفها المحيطة التي خلقتها الأوضاع الثقافية والذائقة الفنية والرؤى النقدية السائدة في ذلك الوقت.

«أحببت وكثر هم الذين أحبوني»، قالتها الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان بعدما بلغت من جلال العمر شيئا عتيا. وكان رجاء النقاش قد كتب من قبل أنّ العلاقة بين الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان والناقد المصري أنور المعداوي كانت حبا متّقدا، بينما اعتبر بعض النقاد أنّ العلاقة بين فدوى وأنور لم تتعد حدود الصداقة والزمالة الأدبية والهموم الثقافية المشتركة. سيرة فدوى وأنور أثارت أسئلة نقدية عديدة في السيرة الأدبية والشخصية لذواتٍ مبدعة تتجاوز إلى حدّ ما سمات العلاقة الشخصية لترتقي إلى أفق أكثر اتساعا يلتقي فيه الثقافي مع الإبداعي مع الاجتماعي في فترة زمنية محكومة بظروفها.

قصة فدوى وأنور شغلت الأوساط الأدبية وما زالت، وكلّ من كتب يحاول أن يستنطق القيمة الفنية والتاريخية لتلك الرسائل وكلّ يأتي بما استبطنته الرسائل من قراءات عميقة للأوضاع حينها. فقد نشر رجاء النقاش الرسائل المتبادلة بين الأديبين في كتابه «بين المعداوي وفدوى طوقان: صفحات مجهولة في الأدب العربي». وبينما تجزم إشارات رجاء النقاش أنّ ما كان بين فدوى وأنور وصل إلى مرحلة الحب العنيف مبرهنا عليه بإحدى رسائل أنور لفدوى وسماها الرسالة 13 من المجموعة المكونة من 17 رسالة، إلّا أنّ بقية الكتّاب من مدارس أخرى شكّكوا في وجود حب مع عدم التقائهما أبدا.

اعتمد النقاش أيضا على اعترافات فدوى «كانت مراهقتي العاطفية حادة مشتعلة، نفس مكبوتة تتفتح لأول كلمات تأتيها على صفحة رسالة. هي كتابة معبّرة عن حبّ عذريّ بالمراسلة. كنت أقع في هذا اللون من الحب الخيالي وأغوص فيه وبيني وبين التجربة الواقعية جدران القمقم». كما تضمنت مجموعة من قصائدها تتحدث عن الحب المخبوء على استحياء في إحدى تجاربها عن حب مغدور، ولكن يظهر في جزء منها كقصيدة «توأم الثور»:

«لم يكن حبا ولكن

كان كشفا واكتشاف

لامرئ ردي

سيئ الطبع غوي

هو مهزوز الهوية

هو شرٌ وبلية»

ولفدوى مجموعة رسائل أخرى مع شقيقها الشاعر إبراهيم طوقان عالجها الكاتب المتوكل طه في كتابه «فدوى طوقان.. الرسائل والمحذوف». فقد تناول فدوى الإنسانة، حياتها الشخصية وتكوينها الاجتماعي والثقافي، حيث أوضح أنّ فدوى بعكس شقيقها لم تنشغل كثيرا بالقضايا الفكرية الكبرى قدر انشغالها بعالمها الصغير. ففي حين كان طموح إبراهيم طوقان هو بناء الدولة الفلسطينية، كان طموح فدوى هو بناء الإنسان الفلسطيني.

تعامل النقاد مع هذه الرسائل المتبادلة بين فدوى وشقيقها إبراهيم وبين فدوى وأنور المعداوي بحكم قيمتها الأدبية والفنية. لم ينشغلوا كثيرا برسائل إبراهيم إلى فدوى والتي أخذت الطابع التوجيهي التعليمي وغابت عنها المسحة الوجدانية، ولكنهم أقحموا أقلامهم في طبيعة العلاقة بين فدوى وأنور التي كانت في مرحلتها الأولى عبارة عن مرحلة الصداقة القائمة على الحميمية ومنزهة عن الشغف. نفوا ما أورده النقاش بأنّها تحولت إلى حب عذري وذلك لأنّ تراث العذريين وقصصهم لم تنقصها قوة العاطفة ولا الشغف ولا حميمية الحضور، لكن مُنع الوصال.

[email protected]