تنقية نهر النقاء
الثلاثاء - 19 أبريل 2016
Tue - 19 Apr 2016
بعد أن التقى (رَشِيد)، بنصفه الثاني (إيمان)، حل على ضفاف نهر النقاء، في كوخ مغزول من تكاتف عنفوان الأغصان الندية، فغدا عشا لحبهما، وحياتهما؛ تحيط به الأزهار والجنائن والأشجار المثمرة، والسهول الخضر، ترتع بأحضانها ذريتهما مع الأهل والجيرة.
لقد عاشوا ينهلون ويرتوون من مياه النهر، ويتغزلون في صفائه وعذوبته، ويمسحون بنقائه أدران عقولهم وأنفسهم، ويسقون ببركاته زرعهم وماشيتهم ودواجنهم، ويسبغون بطهره جيرتهم.
سنوات مديدة من الحب والسعادة والتعايش جمعت بينهم وبين نهر احتوى مكنون أسرار حياتهم، وهم يدركون بأنه كان سر حياة كل من عشق ضفافه من أجيال حالية، وأجيال سبقتهم بالسكنى حول شطوطه المنعمة.
ورغم سعادة الجمع إلا أن حياة (رَشِيد)، مؤخرا لم تعد هانئة، فكان أن تعرضت مزارعه وماشيته ودواجنه لأمراض وعلل طارئة وكروب عديدة أتت عليها، وبشكل متعاقب غامض، ثم ما لبثت أن انتقلت الأمراض إلى أجساد وعقول ذريته وذرية جيرته بأسباب مجهولة، فكانت أول أحزانه وفاة ابنه (سلام)، بعد نزلة حمى، وهذرة، وتبعته أخته (سكينة)، منتحرة، ثم وصلت لفلذة كبده الصغير (أمان)، فأصيب بالشلل التام.
حزن (رَشِيد)، واعتصره الألم، وهو يرى بعينه تهافت أفراد أسرته والجيرة، وهروب اليافعين منهم بعد تفاقم الشك والعنف والخلاف فيما بينهم؛ وكم تفانى، وبحث وحاول معالجة الحيرة والتناحر، وسقى أبناءه المرار، وقام بحجامتهم، وكيهم، إلا أن التردي كان يستمر؛ وها هو يكاد يفقد ابنته (يقين)، بعد نوبة هذيان.
وتعاظم الجدل، وتفاقمت الخلافات بين الجيرة، وانقسمت إلى فرق متنازعة، فالبعض يتهم مياه النهر الخالد، ويشكك في نقائه، والبعض يطالب ببناء السدود، وقسمة الحصص، وتغيير المجاري، وحفر الآبار، وغيرها من الحلول الجدلية، والتي لم تتمكن من إبعاد شبح الموت، والفرقة، والخلاف الدائم عن حياتهم التعيسة.
حزم (رَشِيد)، أمره، وحمل مزودته، وقرر الرحيل عبر الزمان القديم فلعله يصل إلى منابع النهر، وأن يتفقد بنفسه محطات ومجاري الماضي، وأن يكتشف حقيقة الخلل، ويصلحه، فتعود مياه اليقين والعطاء والسلام، والحب.
وتعمق طويلا بمحاذاة الشط، بين أودية وشلالات، وبرك، ومستنقعات.
وفي حسرة طريقه الشائك شهد بعينيه عجائب ما أحدثه السابقون على ضفاف النهر من أعمال محدثة أدت لتأسين مياهه وتغيير مجراه.
فوجد في بقعة منه مكبا للنفايات، وفي منعرج آخر جثث ماشية مطمورة، وفي خصب تربته وجد أشجارا مسمومة النبت، ووجد الصخور والسدود لتحويل مسار المجرى، ووجد من غمر صفائح المعادن الصدئة، وأكواما من الملح في مياهه، والبعض حوله ليمر من وسط رماد الحرائق، وعظام القبور.
غضب (رَشِيد)، لهول ما وجده ولمسه من عبث ومخالفات غير منطقية، وتمنى لو يتمكن من تنقية مياهه من رواسب وتلويث الماضي، ومن مبادرات البشر بالزيادات والنقص؛ فلعل نهر الصفاء يعود نقيا كما كان، صحيا لا يصيب شاربيه بالأوبئة، ولا بالتشتت والجنون والعنف.
ودنت خطواته من بدايات النبع الأصلي النقي المتحدر من شمم الجبال، فدمعت عيناه، مستشعرا عجزه التام، وخيبته ويأسه، ومعرفته بأنه لن يستطيع إصلاح التراث بمفرده، وأن جيرته لن توافقه، وستتهمه بأنه يريد استباحة النهر، والسيطرة على المجرى، والاعتقاد بأحقية التصرف، وتحييد الغير عن حقيقة نقاء النبع الأصلي.
[email protected]
لقد عاشوا ينهلون ويرتوون من مياه النهر، ويتغزلون في صفائه وعذوبته، ويمسحون بنقائه أدران عقولهم وأنفسهم، ويسقون ببركاته زرعهم وماشيتهم ودواجنهم، ويسبغون بطهره جيرتهم.
سنوات مديدة من الحب والسعادة والتعايش جمعت بينهم وبين نهر احتوى مكنون أسرار حياتهم، وهم يدركون بأنه كان سر حياة كل من عشق ضفافه من أجيال حالية، وأجيال سبقتهم بالسكنى حول شطوطه المنعمة.
ورغم سعادة الجمع إلا أن حياة (رَشِيد)، مؤخرا لم تعد هانئة، فكان أن تعرضت مزارعه وماشيته ودواجنه لأمراض وعلل طارئة وكروب عديدة أتت عليها، وبشكل متعاقب غامض، ثم ما لبثت أن انتقلت الأمراض إلى أجساد وعقول ذريته وذرية جيرته بأسباب مجهولة، فكانت أول أحزانه وفاة ابنه (سلام)، بعد نزلة حمى، وهذرة، وتبعته أخته (سكينة)، منتحرة، ثم وصلت لفلذة كبده الصغير (أمان)، فأصيب بالشلل التام.
حزن (رَشِيد)، واعتصره الألم، وهو يرى بعينه تهافت أفراد أسرته والجيرة، وهروب اليافعين منهم بعد تفاقم الشك والعنف والخلاف فيما بينهم؛ وكم تفانى، وبحث وحاول معالجة الحيرة والتناحر، وسقى أبناءه المرار، وقام بحجامتهم، وكيهم، إلا أن التردي كان يستمر؛ وها هو يكاد يفقد ابنته (يقين)، بعد نوبة هذيان.
وتعاظم الجدل، وتفاقمت الخلافات بين الجيرة، وانقسمت إلى فرق متنازعة، فالبعض يتهم مياه النهر الخالد، ويشكك في نقائه، والبعض يطالب ببناء السدود، وقسمة الحصص، وتغيير المجاري، وحفر الآبار، وغيرها من الحلول الجدلية، والتي لم تتمكن من إبعاد شبح الموت، والفرقة، والخلاف الدائم عن حياتهم التعيسة.
حزم (رَشِيد)، أمره، وحمل مزودته، وقرر الرحيل عبر الزمان القديم فلعله يصل إلى منابع النهر، وأن يتفقد بنفسه محطات ومجاري الماضي، وأن يكتشف حقيقة الخلل، ويصلحه، فتعود مياه اليقين والعطاء والسلام، والحب.
وتعمق طويلا بمحاذاة الشط، بين أودية وشلالات، وبرك، ومستنقعات.
وفي حسرة طريقه الشائك شهد بعينيه عجائب ما أحدثه السابقون على ضفاف النهر من أعمال محدثة أدت لتأسين مياهه وتغيير مجراه.
فوجد في بقعة منه مكبا للنفايات، وفي منعرج آخر جثث ماشية مطمورة، وفي خصب تربته وجد أشجارا مسمومة النبت، ووجد الصخور والسدود لتحويل مسار المجرى، ووجد من غمر صفائح المعادن الصدئة، وأكواما من الملح في مياهه، والبعض حوله ليمر من وسط رماد الحرائق، وعظام القبور.
غضب (رَشِيد)، لهول ما وجده ولمسه من عبث ومخالفات غير منطقية، وتمنى لو يتمكن من تنقية مياهه من رواسب وتلويث الماضي، ومن مبادرات البشر بالزيادات والنقص؛ فلعل نهر الصفاء يعود نقيا كما كان، صحيا لا يصيب شاربيه بالأوبئة، ولا بالتشتت والجنون والعنف.
ودنت خطواته من بدايات النبع الأصلي النقي المتحدر من شمم الجبال، فدمعت عيناه، مستشعرا عجزه التام، وخيبته ويأسه، ومعرفته بأنه لن يستطيع إصلاح التراث بمفرده، وأن جيرته لن توافقه، وستتهمه بأنه يريد استباحة النهر، والسيطرة على المجرى، والاعتقاد بأحقية التصرف، وتحييد الغير عن حقيقة نقاء النبع الأصلي.
[email protected]