جدة والحداثة.. السؤال الذي حير الغذامي
الجمعة - 15 أبريل 2016
Fri - 15 Apr 2016
في عام 1382هـ (1962) كان عبدالله الغذامي تلميذا في المرحلة المتوسطة، وفي عام 1385(1965) اختلف إلى كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وفي عام 1391 (1971) طار إلى بريطانيا، ومكث فيها زهاء ثمانية أعوام، يدرس الدكتوراه، حتى إذا ظفر بشهادتها في الأدب العربي، عام 1398 (1978)، شدَّ رحاله إلى مدينة جدة، أستاذا للغة العربية بجامعة الملك عبدالعزيز.
ما بين التاريخ الأول، حيث كان الغذامي تلميذا في المرحلة المتوسطة، وبين التاريخ الأخير، حيث عاد مسبوقا بلقب «دكتور»، بل بعد هذا التاريخ بسنوات، كان يُلِحّ على عقل الغذامي سؤال واحد: من أول قائل للشعر الحر؟ حتى إذا عرف ذلك في المرحلة الثانوية، وقع في يده كتاب «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة، فانكبَّ عليه، فلما آن له اختيار موضوع للدكتوراه، عاد إلى سؤاله القديم، وآبَ إلى شاعرته يسألها المدد، ولم يتحير ولم يتأخر فأنهى إلى أستاذه المشرف رغبته في دراسة شعر نازك الملائكة، ولولا أن أستاذه الهولندي صرفه عن ذلك، لوحشةٍ كانت بينه وبين الشاعرة العراقية، لأجاب طالب الدكتوراه في «إكستر» عن سؤال تلميذ المتوسطة في «عنيزة»!
وبعد أن صُرِفَ الغذامي عن دراسة نازك في الدكتوراه، يَمَّم وجهه نحو التراث العربي القديم، وكأنه، بعد أن حِيلَ ما بينه وبين شاعرة قصيدة «الكوليرا»، لم يشأْ أن يتخيَّر لموضوعه غيرها من الشعراء المحدثين، وكان بوسعه أن يدرس بدر شاكر السياب، أو صلاح عبدالصبور، أو محمد حسن عواد. ولكنه لم يفعل، وأنفق سنواته البريطانية في تحقيق كتاب تراثي مجهول يدعى «أدب الوزراء» لأحمد بن جعفر بن شاذان، حتَّى إذا ما أتمَّه، ظفر بدرجته العلمية الرفيعة.
وبينما أمضى عبدالله الغذامي سنواته في بريطانيا في المقابلة بين نسخ كتاب «أدب الوزراء» وتحقيق نصه، كان لا يزال في نفسه شيء من نازك الملائكة: يودّ أن يعرف مقدار سُهمتها في تحرير العروض العربي وتجديده، يشدُّه إلى ذلك رغبة لم يستطع ابن شاذان أن يكبتها، ولعله كلما آنس أنْ سينسى شاعرته، بُعِثَتْ في عقله من جديد، فيأمل لو لم يُحَلْ ما بينه وبين درسها، غير أن الأمل ما لبث أن جُدِّد، فعاوده سؤاله القديم: من أول قائل للشعر الحر؟ حين صدرتْ في لايدن، بهولندا، أطروحة س. موريه عن «الشعر العربي الحديث»، سنة 1396 (1976)، وراعه، حين ظهر عليها، أن موريه يردَّ «كل فنيات الشعر الحديث عندنا إلى تأثر غربي مباشر به، حاكى شعراء العرب أقطاب شعراء الغرب، وبالأخص ت. س. إليوت». ولعل الغذامي كان يستدني ساعة ينفض يديه من صاحبه ابن شاذان، ويظفر بالدكتوراه، حتى يفرغ للمسألة الجديدة التي أرق لها، وليُثْبِتَ لموريه أن جديد الشعر الحر له أصل قديم في شعر العرب.
عاد عبدالله الغذامي إلى الوطن في الثالثة والثلاثين من عمره، شابّا يسبقه لقب «دكتور»، وحين هبط جدَّة أُسْقِطَ في يده أن جامعة الملك عبدالعزيز، حيث يعمل، لم يكن فيها قسم علمي يمنح طلابه شهادة جامعية في اللغة العربية وآدابها، وأن قصارى ما يقدمه ليس إلا دروسا يسيرة في النحو والصرف يزجيها إلى عامة الطلاب والمتدربين من الموظفين، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولعله أشفق على نفسه، وأَسِيَ لحاله، وعاف لقب «دكتور»، ذلك اللقب الذي عَبَرَ الصحارِي والبحار، وكابد مرارة الغربة، من أجل أن يفوز به.
أنفق الدكتور عبدالله الغذامي السنتين الأخيرتين من القرن الهجريّ المنصرم، في تدريس موادّ لا يحبها، وفي رئاسة قسم الإعلام، الذي لا ينتمي إليه، لكنه تذكَّر شاعرته الأثيرة نازك، وكتاب غريمه س. موريه، فخفَّ يكتب بحوثا عن نازك الملائكة والشعر الحر، وجذور الشعر الحر في التراث العربي القديم، وحين توفِّي الشاعر محمد حسن عواد عام 1400 (1980)، حيَّاه بدراسة آرائه العروضية. وعساه قدَّر أنه قد وفَى لنازك، وللتراث القديم، ولمحمد حسن عواد، وعساه قدَّر أن «دكتور الأدب» أجاب، أخيرا، عنْ سؤال «تلميذ المتوسطة»: من أول قائل للشعر الحر؟
ما بين التاريخ الأول، حيث كان الغذامي تلميذا في المرحلة المتوسطة، وبين التاريخ الأخير، حيث عاد مسبوقا بلقب «دكتور»، بل بعد هذا التاريخ بسنوات، كان يُلِحّ على عقل الغذامي سؤال واحد: من أول قائل للشعر الحر؟ حتى إذا عرف ذلك في المرحلة الثانوية، وقع في يده كتاب «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة، فانكبَّ عليه، فلما آن له اختيار موضوع للدكتوراه، عاد إلى سؤاله القديم، وآبَ إلى شاعرته يسألها المدد، ولم يتحير ولم يتأخر فأنهى إلى أستاذه المشرف رغبته في دراسة شعر نازك الملائكة، ولولا أن أستاذه الهولندي صرفه عن ذلك، لوحشةٍ كانت بينه وبين الشاعرة العراقية، لأجاب طالب الدكتوراه في «إكستر» عن سؤال تلميذ المتوسطة في «عنيزة»!
وبعد أن صُرِفَ الغذامي عن دراسة نازك في الدكتوراه، يَمَّم وجهه نحو التراث العربي القديم، وكأنه، بعد أن حِيلَ ما بينه وبين شاعرة قصيدة «الكوليرا»، لم يشأْ أن يتخيَّر لموضوعه غيرها من الشعراء المحدثين، وكان بوسعه أن يدرس بدر شاكر السياب، أو صلاح عبدالصبور، أو محمد حسن عواد. ولكنه لم يفعل، وأنفق سنواته البريطانية في تحقيق كتاب تراثي مجهول يدعى «أدب الوزراء» لأحمد بن جعفر بن شاذان، حتَّى إذا ما أتمَّه، ظفر بدرجته العلمية الرفيعة.
وبينما أمضى عبدالله الغذامي سنواته في بريطانيا في المقابلة بين نسخ كتاب «أدب الوزراء» وتحقيق نصه، كان لا يزال في نفسه شيء من نازك الملائكة: يودّ أن يعرف مقدار سُهمتها في تحرير العروض العربي وتجديده، يشدُّه إلى ذلك رغبة لم يستطع ابن شاذان أن يكبتها، ولعله كلما آنس أنْ سينسى شاعرته، بُعِثَتْ في عقله من جديد، فيأمل لو لم يُحَلْ ما بينه وبين درسها، غير أن الأمل ما لبث أن جُدِّد، فعاوده سؤاله القديم: من أول قائل للشعر الحر؟ حين صدرتْ في لايدن، بهولندا، أطروحة س. موريه عن «الشعر العربي الحديث»، سنة 1396 (1976)، وراعه، حين ظهر عليها، أن موريه يردَّ «كل فنيات الشعر الحديث عندنا إلى تأثر غربي مباشر به، حاكى شعراء العرب أقطاب شعراء الغرب، وبالأخص ت. س. إليوت». ولعل الغذامي كان يستدني ساعة ينفض يديه من صاحبه ابن شاذان، ويظفر بالدكتوراه، حتى يفرغ للمسألة الجديدة التي أرق لها، وليُثْبِتَ لموريه أن جديد الشعر الحر له أصل قديم في شعر العرب.
عاد عبدالله الغذامي إلى الوطن في الثالثة والثلاثين من عمره، شابّا يسبقه لقب «دكتور»، وحين هبط جدَّة أُسْقِطَ في يده أن جامعة الملك عبدالعزيز، حيث يعمل، لم يكن فيها قسم علمي يمنح طلابه شهادة جامعية في اللغة العربية وآدابها، وأن قصارى ما يقدمه ليس إلا دروسا يسيرة في النحو والصرف يزجيها إلى عامة الطلاب والمتدربين من الموظفين، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولعله أشفق على نفسه، وأَسِيَ لحاله، وعاف لقب «دكتور»، ذلك اللقب الذي عَبَرَ الصحارِي والبحار، وكابد مرارة الغربة، من أجل أن يفوز به.
أنفق الدكتور عبدالله الغذامي السنتين الأخيرتين من القرن الهجريّ المنصرم، في تدريس موادّ لا يحبها، وفي رئاسة قسم الإعلام، الذي لا ينتمي إليه، لكنه تذكَّر شاعرته الأثيرة نازك، وكتاب غريمه س. موريه، فخفَّ يكتب بحوثا عن نازك الملائكة والشعر الحر، وجذور الشعر الحر في التراث العربي القديم، وحين توفِّي الشاعر محمد حسن عواد عام 1400 (1980)، حيَّاه بدراسة آرائه العروضية. وعساه قدَّر أنه قد وفَى لنازك، وللتراث القديم، ولمحمد حسن عواد، وعساه قدَّر أن «دكتور الأدب» أجاب، أخيرا، عنْ سؤال «تلميذ المتوسطة»: من أول قائل للشعر الحر؟