محمد أحمد بابا

يا أخي خلي عندك منطق!

الجمعة - 15 أبريل 2016

Fri - 15 Apr 2016

راجعت نفسي في نظم حفظته صغيرا جاء فيه (فالنووي وابن الصلاح حرما، وقال قوم ينبغي أن يعلما، والقولة المشهورة الصحيحة، جوازه لكامل القريحة، ممارس السنة والكتاب، ليهتدي به إلى الصواب)، ومع الاستثناء الوارد في هذا النظم الشهير إلا أن القوم لم يعلمونا ما تصح به افتراضيات حساب الخطأ والصواب بميزان المنطق والعلوم العقلية الإدراكية، وانطلقوا بنا نحو الركض خلف نصوص السابقين سامعين مطيعين ولو لم نفهم أو نستوعب، جاعلين كل الذي سبق من الذين سبقوا سابقا لعواطفنا بالتصديق قبل انتشاره في مصافي عقولنا، حتى إنني سمعت من كثير تلقيت منهم تعليما وثنيت عندهم ركبة الرغبة بأن في قراءة المنطق من الإثم ما الله به عليم، ومر علي زمان أمقت كل من يبدأ كلامه بالمقدمة الكبرى والصغرى ويستخرج النتائج، وأقول في نفسي: ما بال المسلم ينكص عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين إلى قول فلاسفة مكروا بعقول الناس فاستخفوها، وحلفت مرات ومرات بأن كل منطق وفلسفة هي للعقيدة مخالفة وللتشريع مناكفة، والغريب بأن في أصول الفقه التي تخصصت فيها أثناء دراستي الجامعية من المنطق ما لا ينكر، لكن أغلب من كنا عنده رهناء تعليم وضعنا في أجواء الاضطرار ردا على المخالفين لا في مناخ العلم البحت ذي الفائدة الإنسانية للمسلم الحريص على إحقاق الحق بكلمات ربه، ومضت السنون وأنا سجين فكرة واحدة أن أي علم فيه إمعان للفكر والتفكير والتأصيل المنطقي للمدركات والمحسوسات والعقليات إنما هو الخطر بعينه على المسلم والمسلمين، وجعلت من النظم السابق الذكر نبراسا لي أنني ولو جنحت لمعرفة المنطق فإنني كمن يتعلم لغة قوم ليأمن مكرهم، وسامح الله ذاك الزمان الذي افتضح أمامي وأمام الكثيرين حين انبرى أهل العلم الشرعي لكل شاردة وواردة من البرمجة العصبية والذهنية والإدراكية وهندسة الذات وأسقطوا كل علوم تشابه المنطق والفلسفة على نصوص الشرع دونما أن ينهرهم أحد كما زجرت وعميت علي الأنباء والقواعد حينها، أنا لا أدري كيف استطاع إنسان مهما بلغ من العلم أن يحرم علما من باب قطع الطريق على ضلال محتمل؟ وكيف استطاع جيل بأكمله أن يحصرنا في مصدات علوم هي من ذاك المعين آخذة خفية أو علنا؟ ونحن في هذا العصر يستفز بعضنا بعضا بقوله له «يا أخي خلي عندك منطق»..

فاليوم أقول: إن القرآن الكريم وما فيه من القصص والعبر وحوارات المؤمنين مع الكافرين وحكايا مناورات الضالين مع الأنبياء والرسل عليهم السلام لا تخلو من منطق بدهي التصور لمن كان له قلب أو سمع، بل إن الأجدى بالمسلم منذ استقامة عقله وفكره لتلقي العلوم أن يكون أساس تعليمه ذات المنطق الذي لا تحيد عنه أية فكرة نأمل زرعها في نفوس الأجيال، وحيث الله تعالى هو الحق المبين وكلامه هو الحق المبين ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحق المبين فلا غرابة أن يجمع إمام في تصنيفه ما يثبت نظرية عدم تعارض العقل والنقل، لذلك عرفت بأن الإشكال في إعادة ترتيب أولويات التعليم لا في إثبات حق وباطل، وحين خضعت في زمن مضى نمطية تدرج المتعلمين لمزاج الفكر العام والتوجه الثقافي المعتمد انكفأ الامتعاض من التناقض في داخل النفوس وأضحى عصيا على الإفصاح، لذلك أنا أعتذر لعقلي ولفكري ولساحة بقايا ذاكرة تعلمي من أنني يوما ظلمت نفسي ظلما كثيرا حين منعتها من خوض غمار التجربة في إثبات المعقول بالمعقول، وتصحيح العقلي بالعقلي، وإمرار النظريات على مواد فحص الفلسفة الإدراكية ليبقى ما ينفع الناس في الأرض ويذهب الخبث وترتاح شوارد الشيطنة، فعشت تناقضا لم ينقذني منه غير رحمة ربي، وسواء قدمت الفلسفة وعلم المنطق من يونانيين أو إغريقيين أو شرق أو غرب فالحكمة لا تصطبغ باللون ولا الجنسية ولا المكان إلا ما يعلق من مظاهر تعاطي يستطيع من يزاول تأطير المنطق أن يعيدها للمادة الخام الأصلية التي يستفيد منها كل إنسان، والمسلم أولى بها، ولنا في إثبات وجود الله تعالى على الملحدين واللادينيين خير شاهد ودليل، ولذلك أيضا أيقنت بكمال إيمان بأن ربي حكيم عليم منزه أن يجعل في عقل من خلقه آلة كفر به ومعصية غير نفس أمارة بالسوء ليس لها فيما نتحدث عنه من أمور العقل حظ ولا نصيب.. والله أعلم.