تكريس الثقافات السلبية!
الجمعة - 15 أبريل 2016
Fri - 15 Apr 2016
ناقشت في مقالة سابقة قضية سلوك الطلاب، والأسبوع الميت، فرغم اعتراف وزير التعليم في مقاله بضلوع المدارس في تكريس هذه الثقافة إلا أن بعض القراء عدها ثقافة مجتمع، وفي نظري أن كلا الأمرين متلازمان، فتساهل أولياء الأمور أو اضطرارهم لتغييب أبنائهم يجيء ردة فعل طبيعية على تساهل المدارس في ضبط مواظبة الطلاب، وسأخصص هذه المقالة لمناقشة ثقافة الأسرة والمجتمع بصفة عامة.
الحديث عن البيئة المدرسية الجاذبة والطاردة يكون عادلا حين نبحث عن جذب أبنائنا إلى التعلم. وخلق هذه البيئة مسؤولية وزارة التعليم التي يجب أن تعمل عليه.
ومعنى بيئة جاذبة أي لا يشعر الطالب فيها بالملل والسأم، والتثاؤب والتراخي الذي يؤثر على تحصيله العلمي، لكن في ذات الوقت ليست البيئة المسؤول الرئيس عن قفز بعض الطلاب للأسوار، أو عقد الاتفاقات بين أبناء الصف الواحد على غياب يوم بعينه وقطع الوعود والعهود (واللي يداوم ما هو رجال)، أو قتل أسبوع قبل الإجازة أو بعدها، فهذا لا علاقة له بالبيئة بقدر علاقته بالثقافة المجتمعية التي تكرست مؤخرا بفعل تراخي المدارس وتراخي الأسر أيضا، فلو نظرنا بعين العدل فإن بيئات المدارس قديما أسوأ بكثير من اليوم، لكن الطلاب يقطعون المسافات مشيا ولا يجرؤ الكثيرون منهم على الغياب العادي، ناهيك عن الغياب الجماعي.
حين ننظر إلى المجتمع نظرة سريعة، سنجد أدبيات عشق الإجازات والتمرد على الدوام تأخذ مساحة شاسعة من التفكير الاجتماعي، وقد وصلت إلى ابتكار عداد يعد ما تبقى على الإجازة القادمة بالثانية، غير ابتكارات رسائل بهجة الإجازة وكره الدوام، أو رسائل نهاية الإجازة المثبطة ونكدية الدوام، ثم مجاراة وزارة التعليم لهذا الهوس حين هبت ثقافة (تعليق الدراسة) فأصبحت أنظار الأبناء معلقة ببزوغ سحابة بشارة الغياب البيضاء أو الغبراء، وصارت نشرة الأحوال الجوية أهم من المسلسلات التركية، وامتدت الثقافة إلى تخطيط الأسرة للسفر وإدخال أيام الأسابيع الميتة ضمن مخططاتهم.
وحين نعلم أن منسوبي وزارة التعليم يتجاوزون نصف مليون نسمة، وعدد الطلاب يفوق الخمسة ملايين، سنعلم أن المجتمع كله منخرط في التعليم، فلذلك سيكون التعليم هو المجتمع، والمجتمع هو التعليم، فإشارات المدارس الخضراء لغياب الطلاب، تؤازرها سعادة الأسر، حتى صار الغياب ثقافة أصيلة تستصعب الوزارة حلها، وهي القديرة إن شاءت.
وحين ننظر للمجتمع بعيدا عن التعليم سنجد في المؤسسات الحكومية بصفة عامة هوسا لدى الموظفين على الغياب الكلي أو الجزئي، فيكفي أن تقرأ في عيون الكثير من الموظفين حنينا إلى الفراش فور توقيعه في دفتر الدوام، وجوه عابسة بالكاد تستطيع النظر إليها، وبالكاد تستطيع التحدث مع كثيرين قبل العاشرة صباحا، وربما لن تجده مع أذان الظهر، وقد سيطرت ثقافة السهر والاستراحات على أغلبهم، حتى بات الدوام (الواجب) عبئا عليهم، أو جزءا من إعدادهم للسهرة القادمة.
تبحث الحكومة عن سبل للقضاء على هذه الثقافة، وتحاول من خلال ضبط الراحات المرضية والشهادات الطبية التي صارت تباع بخمسين ريالا، ومن خلال أنظمة البصمة الممقوتة، ومن خلال مقترحات مثل إغلاق الأسواق مبكرا، وبعض الإجراءات ربما الفردية من بعض الإدارات، لكن كل هذه الإجراءات لا تمس الجوهر الحقيقي للقضية.
وللقضاء على الظاهرة يجب أن نشخصها في المقام الأول على أنها ظاهرة ثقافية، تكرست بفعل الخطاب السائد عن الوطن والوطنية، وبفعل ممارسات التيئيس والتهميش للجادين والمميزين، سواء في إداراتهم أو على المستوى الاجتماعي، ومن خلال المسايرة التي انتهجتها بعض القطاعات، خاصة في وزارة التعليم، (الطلاب ضعيفين في الرياضيات، أجل نقصوا درجة النجاح، الطلاب يحبوا الغياب؛ أجل لا تضيقوا عليهم... وهكذا)، وتستمدها أيضا من خلال خطاب محاربة التغيير والتطوير، وهل ننسى الهجمة على التأمين التعاوني، أو على نظام ساهر، أو على نظام البصمة؟ فكل هذه الهجومات من مؤسسات وشخصيات معتبرة اجتماعيا تكرس حب الفوضى واللانظام.
إذن قضيتنا ثقافية تحتاج أولا إلى معالجة ثقافية شاملة من خلال الطرح الجريء وتشريح احتياجاتنا الآنية والمستقبلية، وتحفيز الجميع على العمل وفق منظومة واحدة لبلوغ الغاية، وتكريس مفهوم أن الشهادة ليست المطلب الأساسي للوظيفة، بل تفوق تطلعاتنا الشهادات إلى نوعية حامليها وطرق تفكيرهم، وتحتاج ثانيا إلى حزم في تطبيق الأنظمة، تكون الرقابة الحقيقية والدقيقة فرس رهانه الرابح، وهذا كله لا يتأتى بفعل جهة واحدة، بل يجب أن يكون مشروعا وطنيا تتحد في تنفيذه كل الجهات الحكومية والخاصة حتى نخرج من نفق الثقافات السلبية الطويل واحدة تلو الأخرى. فحين ندرك أن تلك السلبيات العميقة قيود في نهضة الوطن ونمائه؛ ستتجدد قيم الفاعلية الاجتماعية بعيدا عن «الهياط والإنشاء».
الحديث عن البيئة المدرسية الجاذبة والطاردة يكون عادلا حين نبحث عن جذب أبنائنا إلى التعلم. وخلق هذه البيئة مسؤولية وزارة التعليم التي يجب أن تعمل عليه.
ومعنى بيئة جاذبة أي لا يشعر الطالب فيها بالملل والسأم، والتثاؤب والتراخي الذي يؤثر على تحصيله العلمي، لكن في ذات الوقت ليست البيئة المسؤول الرئيس عن قفز بعض الطلاب للأسوار، أو عقد الاتفاقات بين أبناء الصف الواحد على غياب يوم بعينه وقطع الوعود والعهود (واللي يداوم ما هو رجال)، أو قتل أسبوع قبل الإجازة أو بعدها، فهذا لا علاقة له بالبيئة بقدر علاقته بالثقافة المجتمعية التي تكرست مؤخرا بفعل تراخي المدارس وتراخي الأسر أيضا، فلو نظرنا بعين العدل فإن بيئات المدارس قديما أسوأ بكثير من اليوم، لكن الطلاب يقطعون المسافات مشيا ولا يجرؤ الكثيرون منهم على الغياب العادي، ناهيك عن الغياب الجماعي.
حين ننظر إلى المجتمع نظرة سريعة، سنجد أدبيات عشق الإجازات والتمرد على الدوام تأخذ مساحة شاسعة من التفكير الاجتماعي، وقد وصلت إلى ابتكار عداد يعد ما تبقى على الإجازة القادمة بالثانية، غير ابتكارات رسائل بهجة الإجازة وكره الدوام، أو رسائل نهاية الإجازة المثبطة ونكدية الدوام، ثم مجاراة وزارة التعليم لهذا الهوس حين هبت ثقافة (تعليق الدراسة) فأصبحت أنظار الأبناء معلقة ببزوغ سحابة بشارة الغياب البيضاء أو الغبراء، وصارت نشرة الأحوال الجوية أهم من المسلسلات التركية، وامتدت الثقافة إلى تخطيط الأسرة للسفر وإدخال أيام الأسابيع الميتة ضمن مخططاتهم.
وحين نعلم أن منسوبي وزارة التعليم يتجاوزون نصف مليون نسمة، وعدد الطلاب يفوق الخمسة ملايين، سنعلم أن المجتمع كله منخرط في التعليم، فلذلك سيكون التعليم هو المجتمع، والمجتمع هو التعليم، فإشارات المدارس الخضراء لغياب الطلاب، تؤازرها سعادة الأسر، حتى صار الغياب ثقافة أصيلة تستصعب الوزارة حلها، وهي القديرة إن شاءت.
وحين ننظر للمجتمع بعيدا عن التعليم سنجد في المؤسسات الحكومية بصفة عامة هوسا لدى الموظفين على الغياب الكلي أو الجزئي، فيكفي أن تقرأ في عيون الكثير من الموظفين حنينا إلى الفراش فور توقيعه في دفتر الدوام، وجوه عابسة بالكاد تستطيع النظر إليها، وبالكاد تستطيع التحدث مع كثيرين قبل العاشرة صباحا، وربما لن تجده مع أذان الظهر، وقد سيطرت ثقافة السهر والاستراحات على أغلبهم، حتى بات الدوام (الواجب) عبئا عليهم، أو جزءا من إعدادهم للسهرة القادمة.
تبحث الحكومة عن سبل للقضاء على هذه الثقافة، وتحاول من خلال ضبط الراحات المرضية والشهادات الطبية التي صارت تباع بخمسين ريالا، ومن خلال أنظمة البصمة الممقوتة، ومن خلال مقترحات مثل إغلاق الأسواق مبكرا، وبعض الإجراءات ربما الفردية من بعض الإدارات، لكن كل هذه الإجراءات لا تمس الجوهر الحقيقي للقضية.
وللقضاء على الظاهرة يجب أن نشخصها في المقام الأول على أنها ظاهرة ثقافية، تكرست بفعل الخطاب السائد عن الوطن والوطنية، وبفعل ممارسات التيئيس والتهميش للجادين والمميزين، سواء في إداراتهم أو على المستوى الاجتماعي، ومن خلال المسايرة التي انتهجتها بعض القطاعات، خاصة في وزارة التعليم، (الطلاب ضعيفين في الرياضيات، أجل نقصوا درجة النجاح، الطلاب يحبوا الغياب؛ أجل لا تضيقوا عليهم... وهكذا)، وتستمدها أيضا من خلال خطاب محاربة التغيير والتطوير، وهل ننسى الهجمة على التأمين التعاوني، أو على نظام ساهر، أو على نظام البصمة؟ فكل هذه الهجومات من مؤسسات وشخصيات معتبرة اجتماعيا تكرس حب الفوضى واللانظام.
إذن قضيتنا ثقافية تحتاج أولا إلى معالجة ثقافية شاملة من خلال الطرح الجريء وتشريح احتياجاتنا الآنية والمستقبلية، وتحفيز الجميع على العمل وفق منظومة واحدة لبلوغ الغاية، وتكريس مفهوم أن الشهادة ليست المطلب الأساسي للوظيفة، بل تفوق تطلعاتنا الشهادات إلى نوعية حامليها وطرق تفكيرهم، وتحتاج ثانيا إلى حزم في تطبيق الأنظمة، تكون الرقابة الحقيقية والدقيقة فرس رهانه الرابح، وهذا كله لا يتأتى بفعل جهة واحدة، بل يجب أن يكون مشروعا وطنيا تتحد في تنفيذه كل الجهات الحكومية والخاصة حتى نخرج من نفق الثقافات السلبية الطويل واحدة تلو الأخرى. فحين ندرك أن تلك السلبيات العميقة قيود في نهضة الوطن ونمائه؛ ستتجدد قيم الفاعلية الاجتماعية بعيدا عن «الهياط والإنشاء».