صالح زياد

الجسر!

الأربعاء - 13 أبريل 2016

Wed - 13 Apr 2016

أخذ الإعلان عن إنشاء جسر الملك سلمان الذي يربط بين المملكة ومصر صدى واسعا من التفاعل الشعبي، وكان أبرز أشكال هذا التفاعل تبادل عدد من الصور الفكاهية المركبة، في وسائل التواصل الاجتماعي: صور يبدو في إحداها نجم الكوميديا الأشهر عادل إمام وهو يرتدي الزي السعودي، ثوبا أبيض وشماغا يعلوه العقال في رزة مائلة قليلا، بحيث لا يبقى اختلاف ملحوظ تقريبا يميزه عن مواطن سعودي. وهو في زيه هذا يطل من نافذة سيارته الفاخرة محييا وسائلا «الله بالخير، طريق روزة خريم فين»! أي «روضة خريم»، المتنزه الطبيعي المعروف قرب الرياض. وصورة أخرى لنجم الكوميديا حسن حسني مرتديا الثوب والشماغ والعقال، بملامحه الضاحكة، ممسكا فنجان القهوة العربية، وقائلا «مساء الخير يا قماعة الربع». وإلى ذلك صورة لسعوديين يرتدون ملابسهم إلى جوار مصريين على شاطئ البحر...إلخ.

وهذا النشاط التفاعلي مع خبر الجسر في تميزه بالفكاهة، وفي غلبة حضوره في أحاديث الإعلام ووسائل التواصل بأشكال أخرى يستدعي التساؤل، خصوصا وقد كان إعلانه مصاحبا لإعلان مشاريع أخرى مشتركة بين البلدين وذات أهمية، لم تلق مثل هذا التفاعل.

ومن غير شك فإن مظاهر التفاعل الاجتماعي التلقائية على هذا النحو بؤرة لدلالة رمزية تجاوز الشعور إلى اللاشعور، وتتخطى وعي الفرد منعزلا إلى وعي المجتمع في وحدته وكليته. وإذا كان موضوع التفاعل هنا هو الجسر، فإن الجسر دلالة رمزية عميقة وثرية في الوعي الإنساني، ذلك أنه يربط مسافة الانفصال والتباعد بين أمرين، ربطا يبقي على ذاكرة الانفصال هذه وإن ألغاها، وهو تمثيل على الرغبة في بلوغ أمر، ومجاوزة عقبة، والتحول من وضع إلى وضع، والخروج من حال إلى سواه، ولهذا كان مفتاحا سيكولوجيا للتحليل. وعندما نتعقب بعض دلالاته هذه في تحليلات فرويد نجده يقرأ فيه رمزية التغير في أسلوب الحياة، أو العبور من مرحلة عمرية إلى أخرى، وحدوث تحول جذري. وما أكثر ما يلح الجسر بهذه المعاني على وعي الفرد والجماعة، فليست الحياة الإنسانية إلا جسورا تتكاثر، عبرنا بعضها أو عجزنا، ونطمح في أخرى أو نخافها أو نيأس منها: الولادة جسر، والبلوغ جسر، والتعليم جسر، والعمل جسر، والأمل جسر، والحرب جسر، والحضارة جسر... والموت أخيرا جسر.

الأدب وهو أحد الحقول التي يرمز الوعي الإنساني بها وفيها ذاته، دال على كثافة حضور رمزية الجسر، سواء بلفظه أو بما ينطوي عليه من دلالة التحول والعبور والانتشار. وهي دلالة تحيل على النماذج العليا للتحول الكامنة في اللاوعي الجمعي بحسب المنطق النظري عند كارل يونج: النماذج الحبلى بالمعاني والدلالات التي لا تنفد. ورواية عبدالرحمن منيف «حين تركنا الجسر وحيدا» أحد الأمثلة التي تعلن الجسر بلفظه في عنوانها، ويغدو رمزا غامضا لفقدان الأمل، وفوات الفرصة. وقد ختمها بقول الراوي، وهو شخصيتها الرئيسة «... وتأكدت أن جميع الرجال يعرفون شيئا كثيرا عن الجسر، وأنهم ينتظرون... ينتظرون ليفعلوا شيئا». وما تزال دراسة رمزية الجسر، فيما أحسب، جديرة عربيا بالجهد، وكتاب فيليب جراندلنر «الجسر الغنائي» (1979م) يمثل على كثافة هذا الحضور، أوروبيا، ويدلل على تمايز فترات كثافته، وتفاوتها بين عديد الأسماء الأدبية، وثرائه الدلالي.

نعم، كانت الفكاهة أو المفارقة الوجه الأبرز للتفاعل مع خبر إنشاء جسر الملك سلمان، وهي الوجه الأكثر تلقائية في ترميز الوعي، بحيث كانت الصور الفكاهية التجسيد لدلالة الجسر على التواصل والتحول: الدلالة على رغبة والتمثيل لحلم!

[email protected]