تيسلا.. ومستقبل التحوّل الوطني
الاثنين - 11 أبريل 2016
Mon - 11 Apr 2016
في عام 1825 كلف عالم الرياضيات البريطاني بينيامين قومبيرتز مجموعة من طلابه بمراقبة صندوق يحوي بداخله مليونا ومائتي ألف ذبابة وطلب منهم تسجيل عدد الذباب الذي يفنى كل يوم. استمر العمل في ذلك المشروع الشاق والغريب - والذي يشرح طبيعة قومبيرتز التطبيقية كعالم لم يدرس يوما في جامعة – 171 يوما حتى سقطت آخر ذبابتين وأخرج قومبيرتز للعالم معادلته المعروفة لحساب معدلات الوفاة الطبيعية والتي ما زالت تستخدم حتى اليوم في حساب تكاليف التأمين الطبي والتخطيط لمدخرات التقاعد وبرامج الرعاية الاجتماعية.
وإن كانت نية قومبيرتز الأساسية هي تحويل الوفاة من حادثة مفاجئة ومأساوية على مستوى الفرد إلى معادلة يمكن حسابها وتوقع ناتجها على مستوى المجتمع، فقد قدمت معادلته مدخلا لفهم الحياة أيضا. فاليوم يستخدم منحنى قومبيرتز، والذي يتبع شكلا يشبه حرف الـS باللغة الإنجليزية، للتنبؤ بدورة حياة المنتجات التي يتم يطرحها في السوق. فكما هو الحال في حياة المخلوقات، تتبع عملية إحلال التقنيات الجديدة نمط نمو بطيئا جدا يشبه الزحف على الأرض مما يجعل من المراهنة على فشل هذه التقنية أمرا أكثر منطقية من التوقع بنجاحها وهو ما تبرره الإحصاءات التي تشير إلى أن معدلات فشل التقنيات والمنتجات الجديدة تتراوح بين 40 إلى 50%.
ولكن بمجرد أن تكتسب التقنية المطروحة شبكة من المجربين والمستخدمين الذين يجعلون من التحول إليها أمرا أكثر جدوى من الاحتفاظ بالتقنية القديمة، فسيسلك نمط النمو منحنى تصاعديا تصبح معه هذه التقنية حديث الناس وشاغلهم ومحاولة تصور العالم من دونها أمرا من الخيال. ولكن سرعان ما يعود هذا المنحنى إلى التباطؤ مرة أخرى بسبب استهلاك كل فرص النمو نتيجة لتشبع السوق أو ظهور تقنيات أخرى أكثر جدوى وأقل تكلفة لتدخل التقنية الحالية في مرحلة الشيخوخة والانحدار فيتذكرها الناس بدهشة غير مصدقين أنها كانت جزءا من حياتهم في يوم ما.
في الأسبوع الفائت شهد العالم مثالا حيا على منحنى قومبيرتز إذ تسابق 325 ألف شخص على طلب الإصدار الثالث من سيارة «تيسلا» الكهربائية وهو الرقم الذي يتجاوز طاقة الإنتاج الحالية لمصانع الشركة، ويمثل شهادة أخرى على انتعاش قطاع السيارات في الولايات المتحدة بعد أن شارف على الإفلاس في 2008. ورغم غلاء سعرها مقارنة بمثيلاتها من السيارات التقليدية ومحدودية انتشار محطات الشحن الكهربائي، إلا أن رسالة المستهلكين للشركة التي لم تتجاوز مبيعاتها قبل أربع سنوات 2700 سيارة توحي بأن تيسلا قد نجحت في بناء شبكتها من المبشرين بأن التحول إلى تقنية السيارات الكهربائية يبدو أكثر جدوى من البحث عن محطة بنزين. وإن كانت تيسلا تعد واجهة لهذا التحول، فإنها بالكاد تكون صانعه الوحيد. فالسباق نحو جعل تكلفة تملك وتشغيل السيارات الكهربائية أقل من السيارات التقليدية يشارك فيه معظم مصنعو السيارات حول العالم وتدعمه الحكومات التي تقدم تسهيلات ضريبية للملاك والمصنعين ويصب في تيار التحول إلى التقنيات البديلة وحماية البيئة مواجهة خطر التغيير المناخي. بل إن شركات الكهرباء في الولايات المتحدة تعرض بناء محطات شحن منزلية بتكلفة منخفضة لملاك السيارات الكهربائية أملا في أن يساهم انتشارها في زيادة استخدام الكهرباء المنزلية خارج ساعات الذروة.
هذا الاحتفاء الاستهلاكي بسيارة «تيسلا» وتجاوزها لمرحلة الزحف إلى الركض، يجب أن يمثل رسالة للقائمين على برنامج التحول الوطني والذي يعد تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط أحد محاوره. فعلى خلاف الاهتمام بتقنية السيارات الكهربائية في ثمانينات القرن الماضي والذي اضمحل بعد تراجع أسعار النفط آنذاك، يأتي الاهتمام بهذه التقنية رغم الكلفة المتدنية لامتلاك السيارات التقليدية والتي تستهلك قرابة نصف الإنتاج العالمي من النفط.
والتفكير في رسالة «تيسلا» يجب أن لا يتوقف عند التخوف من مستقبل الطلب العالمي على النفط، فهذه الرسالة قد تم استيعابها على مستوى القيادة الاقتصادية، إذ أشار رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الأمير محمد بن سلمان في حديثه مع شبكة «بلومبيرج» إلى نية السعودية إنهاء اعتمادها على النفط خلال عشرين عاما. بل يجب أن يمتد إلى التفكير في الفرص التي يطرحها هذا التحول أمام مستقبل الاقتصاد السعودي.
فالقدرة على تنويع مصادر الدخل بشكل يحافظ على مستوى دخل عال بدون الاعتماد على المصادر الطبيعية، يترجم في نهاية الأمر إلى القدرة على الابتكار وجعل الاقتصاد مصدرا وحاضنا لتقنيات ومنتجات تحظى بذات الإقبال الذي وجدته «تيسلا». وهذه القدرة على الابتكار لا تتوقف عند رصد السيولة المالية أو الدعم الحكومي بل تعتمد أيضا على رأس المال البشري الذي يحول الاستثمار المادي إلى منتج ذي معنى، وعلى تكامل البنى التحتية التي تدعم دورة الاستثمار والإنتاج والاستهلاك. فعلى سبيل المثال، تشير العلاقة بين متوسط ذكاء الشعوب ومتوسط الدخل إلى أن زيادة نقطة واحدة في ذكاء المجتمع - نتيجة للاستثمار في التعليم والصحة.. إلخ – تقود إلى زيادة 6% في متوسط الدخل القومي. وهذه العلاقة تصبح أكثر قوة كلما زاد قل الاعتماد على مصادر الدخل الطبيعية.
وكما هو الحال مع فرص نجاح منتج على رف سوبرماركت، فإن خطط التحول الاقتصادي القائمة على الابتكار تواجه التحدي ذاته. ففي حين ينمو عدد المنتجات المطروحة في السوق الأمريكي بنسبة 8% كل عام، تتوقف نسبة الزيادة في استهلاك المنتجات الجديدة عند 3%. وبينما يتم إنفاق قرابة 600 مليار دولار سنويا في الولايات المتحدة على تطوير وابتكار منتجات وتقنيات جديدة، لا يتجاوز حجم الإنفاق على استهلاك هذه المنتجات في سنتها الأولى 330 مليار دولار، وهو الأمر الذي يعني أن عوائد الابتكار رغم ضخامتها ليست مضمونة لجميع المبتكرين، وأن التنويع الاقتصادي عبر الابتكار يتطلب فهماً وموائمة لاتجاهات الاستهلاك واستثماراً في تقنية الغدّ وتقبلاً لاحتمالات الفشل الواسعة..
[email protected]
وإن كانت نية قومبيرتز الأساسية هي تحويل الوفاة من حادثة مفاجئة ومأساوية على مستوى الفرد إلى معادلة يمكن حسابها وتوقع ناتجها على مستوى المجتمع، فقد قدمت معادلته مدخلا لفهم الحياة أيضا. فاليوم يستخدم منحنى قومبيرتز، والذي يتبع شكلا يشبه حرف الـS باللغة الإنجليزية، للتنبؤ بدورة حياة المنتجات التي يتم يطرحها في السوق. فكما هو الحال في حياة المخلوقات، تتبع عملية إحلال التقنيات الجديدة نمط نمو بطيئا جدا يشبه الزحف على الأرض مما يجعل من المراهنة على فشل هذه التقنية أمرا أكثر منطقية من التوقع بنجاحها وهو ما تبرره الإحصاءات التي تشير إلى أن معدلات فشل التقنيات والمنتجات الجديدة تتراوح بين 40 إلى 50%.
ولكن بمجرد أن تكتسب التقنية المطروحة شبكة من المجربين والمستخدمين الذين يجعلون من التحول إليها أمرا أكثر جدوى من الاحتفاظ بالتقنية القديمة، فسيسلك نمط النمو منحنى تصاعديا تصبح معه هذه التقنية حديث الناس وشاغلهم ومحاولة تصور العالم من دونها أمرا من الخيال. ولكن سرعان ما يعود هذا المنحنى إلى التباطؤ مرة أخرى بسبب استهلاك كل فرص النمو نتيجة لتشبع السوق أو ظهور تقنيات أخرى أكثر جدوى وأقل تكلفة لتدخل التقنية الحالية في مرحلة الشيخوخة والانحدار فيتذكرها الناس بدهشة غير مصدقين أنها كانت جزءا من حياتهم في يوم ما.
في الأسبوع الفائت شهد العالم مثالا حيا على منحنى قومبيرتز إذ تسابق 325 ألف شخص على طلب الإصدار الثالث من سيارة «تيسلا» الكهربائية وهو الرقم الذي يتجاوز طاقة الإنتاج الحالية لمصانع الشركة، ويمثل شهادة أخرى على انتعاش قطاع السيارات في الولايات المتحدة بعد أن شارف على الإفلاس في 2008. ورغم غلاء سعرها مقارنة بمثيلاتها من السيارات التقليدية ومحدودية انتشار محطات الشحن الكهربائي، إلا أن رسالة المستهلكين للشركة التي لم تتجاوز مبيعاتها قبل أربع سنوات 2700 سيارة توحي بأن تيسلا قد نجحت في بناء شبكتها من المبشرين بأن التحول إلى تقنية السيارات الكهربائية يبدو أكثر جدوى من البحث عن محطة بنزين. وإن كانت تيسلا تعد واجهة لهذا التحول، فإنها بالكاد تكون صانعه الوحيد. فالسباق نحو جعل تكلفة تملك وتشغيل السيارات الكهربائية أقل من السيارات التقليدية يشارك فيه معظم مصنعو السيارات حول العالم وتدعمه الحكومات التي تقدم تسهيلات ضريبية للملاك والمصنعين ويصب في تيار التحول إلى التقنيات البديلة وحماية البيئة مواجهة خطر التغيير المناخي. بل إن شركات الكهرباء في الولايات المتحدة تعرض بناء محطات شحن منزلية بتكلفة منخفضة لملاك السيارات الكهربائية أملا في أن يساهم انتشارها في زيادة استخدام الكهرباء المنزلية خارج ساعات الذروة.
هذا الاحتفاء الاستهلاكي بسيارة «تيسلا» وتجاوزها لمرحلة الزحف إلى الركض، يجب أن يمثل رسالة للقائمين على برنامج التحول الوطني والذي يعد تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط أحد محاوره. فعلى خلاف الاهتمام بتقنية السيارات الكهربائية في ثمانينات القرن الماضي والذي اضمحل بعد تراجع أسعار النفط آنذاك، يأتي الاهتمام بهذه التقنية رغم الكلفة المتدنية لامتلاك السيارات التقليدية والتي تستهلك قرابة نصف الإنتاج العالمي من النفط.
والتفكير في رسالة «تيسلا» يجب أن لا يتوقف عند التخوف من مستقبل الطلب العالمي على النفط، فهذه الرسالة قد تم استيعابها على مستوى القيادة الاقتصادية، إذ أشار رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الأمير محمد بن سلمان في حديثه مع شبكة «بلومبيرج» إلى نية السعودية إنهاء اعتمادها على النفط خلال عشرين عاما. بل يجب أن يمتد إلى التفكير في الفرص التي يطرحها هذا التحول أمام مستقبل الاقتصاد السعودي.
فالقدرة على تنويع مصادر الدخل بشكل يحافظ على مستوى دخل عال بدون الاعتماد على المصادر الطبيعية، يترجم في نهاية الأمر إلى القدرة على الابتكار وجعل الاقتصاد مصدرا وحاضنا لتقنيات ومنتجات تحظى بذات الإقبال الذي وجدته «تيسلا». وهذه القدرة على الابتكار لا تتوقف عند رصد السيولة المالية أو الدعم الحكومي بل تعتمد أيضا على رأس المال البشري الذي يحول الاستثمار المادي إلى منتج ذي معنى، وعلى تكامل البنى التحتية التي تدعم دورة الاستثمار والإنتاج والاستهلاك. فعلى سبيل المثال، تشير العلاقة بين متوسط ذكاء الشعوب ومتوسط الدخل إلى أن زيادة نقطة واحدة في ذكاء المجتمع - نتيجة للاستثمار في التعليم والصحة.. إلخ – تقود إلى زيادة 6% في متوسط الدخل القومي. وهذه العلاقة تصبح أكثر قوة كلما زاد قل الاعتماد على مصادر الدخل الطبيعية.
وكما هو الحال مع فرص نجاح منتج على رف سوبرماركت، فإن خطط التحول الاقتصادي القائمة على الابتكار تواجه التحدي ذاته. ففي حين ينمو عدد المنتجات المطروحة في السوق الأمريكي بنسبة 8% كل عام، تتوقف نسبة الزيادة في استهلاك المنتجات الجديدة عند 3%. وبينما يتم إنفاق قرابة 600 مليار دولار سنويا في الولايات المتحدة على تطوير وابتكار منتجات وتقنيات جديدة، لا يتجاوز حجم الإنفاق على استهلاك هذه المنتجات في سنتها الأولى 330 مليار دولار، وهو الأمر الذي يعني أن عوائد الابتكار رغم ضخامتها ليست مضمونة لجميع المبتكرين، وأن التنويع الاقتصادي عبر الابتكار يتطلب فهماً وموائمة لاتجاهات الاستهلاك واستثماراً في تقنية الغدّ وتقبلاً لاحتمالات الفشل الواسعة..
[email protected]