حسين بافقيه

جدَّة والحداثة.. يوسف نور عوض والزمن الضائع

الجمعة - 01 أبريل 2016

Fri - 01 Apr 2016

عُرِفَ اسم الناقد والأستاذ الجامعي السوداني الدكتور يوسف نور عوض في الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته، صحفيا كبيرا في قناة الجزيرة الفضائية، واعتاد متابعو تقارير القناة أن يتردد اسمه تِلْوَ هذا التقرير أو ذاك، مما أعدَّه ذلك الصحفي الخبير، وحين توفاه الله جاء في نعيه أنه عمل أستاذا في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك عبدالعزيز بمدينة جدة، في عهد متقدم من حياته.

وربما التصق اسم الدكتور يوسف نور عوض في ذاكرة نفر من القراء، ممن أدرك معركة الحداثة في المملكة، بمناوءته العنيفة لنفر من الحداثيين، وبالأخص الدكتور عبدالله الغذامي، ولا يزال جمهرة من القراء يتذكرون مقالاته الدامغة التي كان يذيعها في صحيفة «الندوة» المكية، بُعَيْد أن أصدر الدكتور الغذامي كتابه المشهور «الخطيئة والتكفير»، عام 1405 (1985)، فاتصل اسمه بأسماء جماعة من الأدباء والمثقفين الذين أخذوا على أنفسهم دفْع الحداثة ومقاومتها، وكان محمد عبدالله مليباري أعلى تلك الأسماء صوتا وأشدّها عارضة.

على أن مقالات يوسف نور عوض تباين مقالات خصوم الحداثة كافة، فالرجل كان ينازل نقاد الألسنية بسلاحهم نفسه، فهو ينقض مقولاتهم ويهيج الناس بهم، لا بالجلبة والصياح، ولكن بمعرفة واسعة فُسِحت له بالنظرية النقدية، وإن شاب مقالاته غمز ولمز، اضطرَّته إليهما طبيعة المعارك الأدبية. وأذكر – إبَّان اختلافي إلى الجامعة آنئذ – أنني كنتُ أتحيَّن يوم الأحد، وهو اليوم الذي تصدر فيه صحيفة «الندوة» ملحقها الأدبي المشهور، وكنت أغذّ الخطى إلى المكتبة، في الصباح الباكر، مخافة أن يسبقني القراء المشغوفون بملحقها، فتنفد الصحيفة، فتفوتني متابعة حرب ضروس على الحداثة والحداثيين، كان الدكتور يوسف نور عوض من فرسانها المجلِّين.

كان الدكتور يوسف نور عوض قد غادر، من قبل، قسم اللغة العربية بجدة، وتحوَّل إلى كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وأوحت الفصول التي ينشرها في الصحافة، ووقوفه في وجه زميل الأمس الدكتور عبدالله الغذامي، ونقضه لكثير من أقواله، أن الرجل إنما فعل ذلك لأنه يعتزي إلى تيار أدبي أو فكري مباين لحركة الحداثة، فهو إن كتب فإنما يكتب ناقدا، وهو إن نقد فذلك النقد الذي يهيج الناس ويثير النقع، ويشتدّ في القول ويعنف، ولولا أنه يسوق كلامه ذلك العنيف في لغة نقدية مصطلحية لما اختلف عن محمد مليباري أو محمد المفرَّجي وسواهما من الكتّاب المحافظين. وأقرب الظن أنه لو أتيح التأريخ لتلك الحقبة من عمر الثقافة في المملكة، وسيق اسم الدكتور يوسف نور عوض في أثنائه، لَسُلِكَ اسمه في عداد أولئك النفر من الأدباء والمثقفين الذين قعدوا للحداثيين كل مرصد، وأحصوا عليهم أنفاسهم، فلم يتركوا لهم كتابا ولا مقالا إلا أشبعوهما بحثا وفحصا ونقدا، ولعل من قرأ هذا الفصل الذي أكتبه يدهشه أنني أوردتُ اسم الدكتور يوسف نور عوض، في حديث نثرت فيه طرفا من مشاهداتي وذكرياتي عن نشأة النقد الحداثي «الألسني» في المملكة! فما لهذا الرجل وللنقد الحداثي، وهو من عرفنا؟

غير أن التاريخ الذي يدوِّن أشياء ويسكت عن أخرى، أغفل حلقة مهمة في نشأة النقد الحداثي في بلادنا، وسكت عنها حتى طال سكوته. فعل ذلك حين أسقط اسم الدكتور سعد مصلوح، وعرفنا أي أثر تركه في ثقافة هذه البلاد، وها هو اليوم يسقط اسم الدكتور يوسف نور عوض، ولا يكاد يذكره إلا إذا سيقت أسماء المعارضين والمقاومين.

ولقد مر بنا، من قبل، أن الدكتور يوسف نور عوض علَّق على محاضرة الدكتور سعد مصلوح «الاتجاه اللغوي في النقد الحديث»، حين ألقاها سنة 1402 (1982)، ومرَّ بنا أنه تحدث فأفاض في الحديث عن البنيوية، في زمن كان اسم البنيوية وما إليها غريبا منكورا. لكن ذلك وحده لا يكفي لكي نعتدَّ الدكتور يوسف نور عوض ممن ضرب بسهم في استجلاب النظر إلى النقد الحداثي «الألسني»، في تلك المدة المبكرة من عمر الثقافة في بلادنا، لكن التاريخ الذي ينتقي الحوادث كما يشاء، لم يخبرنا أن هذا الباحث السوداني الذي ترجم نصوصا نقدية مهمة للشاعر والناقد الحداثي المشهور ت. س. إليوت، وأن هذا الأستاذ الجامعي الذي درس مقامات الحريري في كتاب يعرفه كثير من القراء والباحثين له حكاية مع النَّقد الحداثيّ، سأفردها بحديث خاص في مقال الأسبوع القادم إن شاء الله.