لماذا تنتشر الازدواجية في المجتمع السعودي؟
الأربعاء - 30 مارس 2016
Wed - 30 Mar 2016
هناك مجتمعات تمتلك صفات عامة وأنماطا تميزها عن غيرها من المجتمعات، طبعا مع وجود فوارق تفصيلية بين الأفراد. لتوضيح الفكرة، شاهد النمط العمراني في منازل أبها والدمام، تجدها منازل متشابهة في مظهرها العام مع اختلاف بعض التفاصيل. المجتمعات كذلك، تتشارك الصورة الكبيرة ويختلف أفرادها في التفاصيل. يعزو علماء الاجتماع تشابه أفراد المجتمع إلى عوامل أساسية تجمعهم، كالمناخ والنظام التعليمي واللغة والدين والعرق وغيرها، حينها يتحول المجتمع إلى «كائن» واحد له شخصية فريدة وذهنية معينة. على سبيل المثال، المجتمع السعودي متشابه إلى حد كبير، بينما المجتمع الأمريكي يصعب تحديد هويته بسبب التنوع الهائل في تركيبته.
فالاعتقاد السائد أن للمجتمع السعودي «شخصية» محددة هو اعتقاد صائب إلى حد كبير. ولو أخذنا نظرة بانورامية شاملة على خريطة المجتمع السعودي لوجدنا أنه مجتمع كريم مثلا، ولكن من ناحية أخرى، سنجد أن الازدواجية علامة من علاماته. هنا محاولة أولية لفهم بعض العوامل المحتملة التي ساعدت في تشكيل صفة الازدواجية.. محاولة فهم وليست مقاضاة ومحاكمة:
1 الجانب الاقتصادي
لو رسمنا منحنى زمنيا لدخل الفرد السعودي لوجدنا قفزة هائلة في السبعينات الميلادية مع طفرة النفط ومرحلة تكون مؤسسات الدولة. هذا التحول كان بمثابة الصدمة الحضارية والثقافية للمجتمع السعودي، وأعاد صياغة الذهنية السعودية، كما ألمح لذلك عبدالعزيز الخضر في مقدمة كتابه (السعودية: سيرة دولة ومجتمع). في الوضع الطبيعي تمر المجتمعات بخمس مراحل للنمو الاقتصادي (فرضية والت رستو): يبدأ المجتمع بسيطا ومعتمدا على الطابع الزراعي، ومن ثم ينتشر التعليم فيه، وبعد ذلك تتوسع مداركه وطاقاته، وبعد ذلك يطور أدوات الإنتاج والصناعة، وبعدها يتجه لينعم بالاستهلاك. ما حدث مع طفرة النفط أن المجتمع السعودي اختزل كل هذه الخطوات، وقفز من كونه مجتمعا تقليديا بسيطا إلى مجتمع مستهلك دفعة واحدة دون المرور بمراحل النضج، وكأن الفلاح انتقل من الحقل إلى الوزارة في ساعات. هذه القفزة تركت ندوبا في الذهنية السعودية، ومنها الترفع عن شغل المهن والحرف التقليدية.
على الطرف الآخر نجد أن التراث الديني الذي يعتبر أهم مرجع أخلاقي للسعوديين يحتفي ويقدر مهن الأنبياء كالنجارة والخياطة. وهنا يقع التصادم بين المثل العليا والواقع، حتى أصبحنا مزدوجين: يختلف اعتقادنا عن ممارساتنا. وهذا السيناريو يتكرر كثيرا في مواقف أخرى يختلف فيها سلوكنا عن قيمنا الدينية.
2 الجانب الاجتماعي
تعتبر القبيلة في السعودية العمود الفقري للنظام الاجتماعي، فكل فرد هو ممثل رسمي ليس لشخصه فقط، بل لكل من يحمل اسم القبيلة. هذا الانتماء المحكم فرض قواعده الخاصة على سلوك الفرد السعودي، الذي يصارع بين كونه بشرا طبيعيا في نزعاته وطبائعه، وبين كونه سفيرا للقبيلة بكافة أعرافها وتقاليدها: بين ذاته العليا وذاته السفلى، على وصف فرويد، ولهذا تجد للسعودي شخصيتين: شخصية بشرية عفوية تبرز ملامحها الصادقة حالما تواجدت الحرية، وشخصية متكلفة ومزيفة داخل أسوار المجتمع. ولعل أوضح معيار لهذا الصراع الدائم يتمظهر في الزي النسائي في حال السفر أو حتى التسوق على بعد كيلومترات قليلة خارج نطاق السطوة الاجتماعية وبعيدا عن أعين «الجماعة». هذه السلوكيات وإن كانت بسيطة في قيمتها، إلا أن أثرها عميق في ترسيخ الازدواجية كأسلوب حياة مقبول في النفس والذهنية السعودية، وقد تنسحب لمواقف وقرارات أكثر خطورة.
3 الجانب الثقافي
لا أعتقد أننا نولي اهتماما كافيا لحجم تأثير اللغة على سلوكياتنا. هناك رابطة وثيقة بين اللغة وسلوك متحدثيها وطريقة تحليلهم وفهمهم للأمور. ففي تجربة بين أطفال يتحدثون اللغة العبرية وأطفال يتحدثون اللغة الفنلندية وجدوا أن الأطفال «العبريين» يدركون إذا كانوا ذكورا أو إناثا مبكرا في حياتهم قبل الأطفال الفنلنديين، لأن اللغة العبرية تحوي ضمائر التأنيث والتذكير، أما الفنلنديون فلا يفرقون في الجنس في لغتهم. الشاهد من هذه التجربة هو الدور المهم الذي تلعبه اللغة في تشكيل أفكارنا ومنطقنا. ومعضلة اللغة العربية، كما يعبر عنها علي الوردي، أنها متكلفة وثقيلة للحياة اليومية، مما يجعلها حبيسة الكتب والمنابر. أما اللغة المستخدمة يوميا فهي لغة الشارع التي تختلف بمقدار هائل عن الفصحى، مما يعني أننا نمتلك طريقتي تفكير: واحدة في المواقف الرسمية، وواحدة في الحياة اليومية. أضف لذلك الشخصيتين المختلفتين بين الحياة الواقعية وشبكات التواصل الاجتماعي. هذه الثنائيات في اللغة والطرح فاقعة وبارزة بشكل كبير في المشهد الثقافي السعودي، مما يعني تضخم حضور الازدواجية.
المجتمع ليس أنا وأنت كأفراد، بل هو نتيجة تفاعلنا معا، وهذا التفاعل قد يخفي صفاتنا الشخصية أو يبرز صفات أخرى جديدة. وكما أرى، الازدواجية هي نتيجة هذا التفاعل في المجتمع السعودي. قد تبدأ هذه الازدواجية بقرار سيدة تكتفي بحجابها دون النقاب في السوق المجاورة، وقد تنتهي بازدواجيتنا الأخلاقية في قراءة المواقف السياسية من حولنا.
فالاعتقاد السائد أن للمجتمع السعودي «شخصية» محددة هو اعتقاد صائب إلى حد كبير. ولو أخذنا نظرة بانورامية شاملة على خريطة المجتمع السعودي لوجدنا أنه مجتمع كريم مثلا، ولكن من ناحية أخرى، سنجد أن الازدواجية علامة من علاماته. هنا محاولة أولية لفهم بعض العوامل المحتملة التي ساعدت في تشكيل صفة الازدواجية.. محاولة فهم وليست مقاضاة ومحاكمة:
1 الجانب الاقتصادي
لو رسمنا منحنى زمنيا لدخل الفرد السعودي لوجدنا قفزة هائلة في السبعينات الميلادية مع طفرة النفط ومرحلة تكون مؤسسات الدولة. هذا التحول كان بمثابة الصدمة الحضارية والثقافية للمجتمع السعودي، وأعاد صياغة الذهنية السعودية، كما ألمح لذلك عبدالعزيز الخضر في مقدمة كتابه (السعودية: سيرة دولة ومجتمع). في الوضع الطبيعي تمر المجتمعات بخمس مراحل للنمو الاقتصادي (فرضية والت رستو): يبدأ المجتمع بسيطا ومعتمدا على الطابع الزراعي، ومن ثم ينتشر التعليم فيه، وبعد ذلك تتوسع مداركه وطاقاته، وبعد ذلك يطور أدوات الإنتاج والصناعة، وبعدها يتجه لينعم بالاستهلاك. ما حدث مع طفرة النفط أن المجتمع السعودي اختزل كل هذه الخطوات، وقفز من كونه مجتمعا تقليديا بسيطا إلى مجتمع مستهلك دفعة واحدة دون المرور بمراحل النضج، وكأن الفلاح انتقل من الحقل إلى الوزارة في ساعات. هذه القفزة تركت ندوبا في الذهنية السعودية، ومنها الترفع عن شغل المهن والحرف التقليدية.
على الطرف الآخر نجد أن التراث الديني الذي يعتبر أهم مرجع أخلاقي للسعوديين يحتفي ويقدر مهن الأنبياء كالنجارة والخياطة. وهنا يقع التصادم بين المثل العليا والواقع، حتى أصبحنا مزدوجين: يختلف اعتقادنا عن ممارساتنا. وهذا السيناريو يتكرر كثيرا في مواقف أخرى يختلف فيها سلوكنا عن قيمنا الدينية.
2 الجانب الاجتماعي
تعتبر القبيلة في السعودية العمود الفقري للنظام الاجتماعي، فكل فرد هو ممثل رسمي ليس لشخصه فقط، بل لكل من يحمل اسم القبيلة. هذا الانتماء المحكم فرض قواعده الخاصة على سلوك الفرد السعودي، الذي يصارع بين كونه بشرا طبيعيا في نزعاته وطبائعه، وبين كونه سفيرا للقبيلة بكافة أعرافها وتقاليدها: بين ذاته العليا وذاته السفلى، على وصف فرويد، ولهذا تجد للسعودي شخصيتين: شخصية بشرية عفوية تبرز ملامحها الصادقة حالما تواجدت الحرية، وشخصية متكلفة ومزيفة داخل أسوار المجتمع. ولعل أوضح معيار لهذا الصراع الدائم يتمظهر في الزي النسائي في حال السفر أو حتى التسوق على بعد كيلومترات قليلة خارج نطاق السطوة الاجتماعية وبعيدا عن أعين «الجماعة». هذه السلوكيات وإن كانت بسيطة في قيمتها، إلا أن أثرها عميق في ترسيخ الازدواجية كأسلوب حياة مقبول في النفس والذهنية السعودية، وقد تنسحب لمواقف وقرارات أكثر خطورة.
3 الجانب الثقافي
لا أعتقد أننا نولي اهتماما كافيا لحجم تأثير اللغة على سلوكياتنا. هناك رابطة وثيقة بين اللغة وسلوك متحدثيها وطريقة تحليلهم وفهمهم للأمور. ففي تجربة بين أطفال يتحدثون اللغة العبرية وأطفال يتحدثون اللغة الفنلندية وجدوا أن الأطفال «العبريين» يدركون إذا كانوا ذكورا أو إناثا مبكرا في حياتهم قبل الأطفال الفنلنديين، لأن اللغة العبرية تحوي ضمائر التأنيث والتذكير، أما الفنلنديون فلا يفرقون في الجنس في لغتهم. الشاهد من هذه التجربة هو الدور المهم الذي تلعبه اللغة في تشكيل أفكارنا ومنطقنا. ومعضلة اللغة العربية، كما يعبر عنها علي الوردي، أنها متكلفة وثقيلة للحياة اليومية، مما يجعلها حبيسة الكتب والمنابر. أما اللغة المستخدمة يوميا فهي لغة الشارع التي تختلف بمقدار هائل عن الفصحى، مما يعني أننا نمتلك طريقتي تفكير: واحدة في المواقف الرسمية، وواحدة في الحياة اليومية. أضف لذلك الشخصيتين المختلفتين بين الحياة الواقعية وشبكات التواصل الاجتماعي. هذه الثنائيات في اللغة والطرح فاقعة وبارزة بشكل كبير في المشهد الثقافي السعودي، مما يعني تضخم حضور الازدواجية.
المجتمع ليس أنا وأنت كأفراد، بل هو نتيجة تفاعلنا معا، وهذا التفاعل قد يخفي صفاتنا الشخصية أو يبرز صفات أخرى جديدة. وكما أرى، الازدواجية هي نتيجة هذا التفاعل في المجتمع السعودي. قد تبدأ هذه الازدواجية بقرار سيدة تكتفي بحجابها دون النقاب في السوق المجاورة، وقد تنتهي بازدواجيتنا الأخلاقية في قراءة المواقف السياسية من حولنا.