بروكسل والإرهاب.. مماحكات العلة الأولى!
السبت - 26 مارس 2016
Sat - 26 Mar 2016
لم يعد انتظار نتائج التفجيرات الانتحارية والنوعية بأهميته القديمة، ولم تعد تفاصيل المنفذين والجهات التي خلفه مثيرة للاهتمام، فخلال عقدين ومئات من العمليات وآلاف الضحايا.. استمر تنوع التجنيد للأتباع والمنفذين لها من دول مختلفة وحالات اجتماعية وفكرية واقتصادية متنوعة، مع تحولات فردية طارئة وأزمات سياسية متعددة، واستجد منذ سنوات وجود منفذين لديهم سوابق إجرامية قريبة ومطلوبين بسرقات وغيرها، مع صعوبة تهيئة المجندين لوقت طويل وتربيتهم تنظيميا.
هذا التضخم والتنوع بالمعلومات جميعها يتيح الفرصة لتشتيت الوعي بالأزمة، عبر مماحكات جدلية تعطل قدرتنا للسيطرة على المشكلة ورؤية أبعادها الحقيقية والهامشية، بعد أحداث 11 سبتمبر افتتح عبدالله النفيسي في لقاءاته مع أحمد منصور هذه اللغة السياسية الحلزونية التي تنفخ بمستمع اللحظة وتطرب غروره.. وشاركه مئات من الأسماء من كتاب في صحفنا ومنتديات الانترنت وخطباء ودعاة وجمهور عريض تم تلميع الحدث بحيل مختلفة، فمن يحصل له الشرف بإهانة قوى الاستكبار العالمي وأمريكا، والاحتلال الصهيوني وقضية فلسطين إلى آخره.
هذا الخطاب نجح أكثر من مرة في توريط الآلاف بعد تلك الأحداث وتمطيط زمن الإرهاب الذي لم يضر لا قوى الاستكبار العالمي ولا إسرائيل ولا الأنظمة المستبدة، ولا شعارات إسلامية ولا عروبية ولا وطنية، بل كان وبالا على الشعوب العربية وحقوقها ولا يزال. هل سيعتذر هؤلاء عن هذه اللغة التي كانوا يتحدثون بها، وقد انتقدت هؤلاء في تلك المرحلة وليس اليوم فقط.
واليوم كردة فعل يعود الخطاب الهجائي للآخر والغرب مرة أخرى دون أن يتغير منه شيء، باستثناء جملة وجملتين يتبرأ فيها المتحدث من الإرهاب. ويساعد على ذلك فعلا مستجدات كثيرة محبطة أصبح فيها المجتمع الدولي بأسوأ حالاته الأخلاقية وهو يتفرج على تهجير وقصف الشعب السوري. أظهرت سلبيات الغرب المتفرج على ما يحدث في سوريا.. وطالت حالة الانتظار فأصبح هناك غضب عربي مشترك من كل الأطياف والتيارات وحتى الاتجاه الحكومي، في نقد أمريكا والغرب هذه الفترة.
لم يتحول طرح تنوع أسباب الإرهاب إلى مسارات إيجابية في إثراء الوعي بصعوبة الظاهرة وتفسيراتها، وإنما أصبح أسلوبا يستعمله كثيرون للتغطية على أخطاء معينة عند كل طرف. ما هو الحد المسموح باستحضار الماضي والآخر؟ فالطريقة السائلة في استحضار التاريخ على شكل لقطات انتقائية يسهل علينا تبرئة أنفسنا من المشكلة. بعد تفجيرات بروكسل كان هناك حوار «ساعة حرة» على قناة الحرة وكان أحد الضيوف هو محمود رفعت رئيس المعهد الأوروبي للقانون والعلاقات الدولية، يستحضر بأن هذه الجماعات ليست مفكرة وأنها جماعات همجية.. ثم يقول «إن هذه الجماعات لها عمق آخر يعود إلى مفجر هذه الجماعات واستقبال رونالد ريجان لطالبان في البيت الأبيض... الذين هم فيما بعد رموز القاعدة موجودون في البيت الأبيض في الثمانينات وكان مشهورا جدا عن الأمريكان والساسة في ذلك الوقت أنهم يظهرون الدولار ويقولون لهم انظروا! إنه مكتوب عليه (نحن نثق بالله) ونحارب السوفيت عدونا وعدوكم المشترك.. وإذا أردنا أن نحل لا بد أن نحل من هنا..»
بغض النظر عن كثير من التفاصيل، أصلا بداية جماعات التكفير وقياداتها هي منذ الستينات كأحد مخرجات المرحلة الناصرية واستبداديتها، وهذا قبل حكاية البيت الأبيض بعقدين، ثم استمرت الأنظمة العربية العسكرية بتوليد التطرف من النظام السوري إلى صدام والقذافي وابن علي وغيرهم، ولو لم تقف أمريكا مع الجهاد الأفغاني ضد الغزو السوفيتي طبعا لمصلحتها، وتدعمه مع جميع الأنظمة الإسلامية طولا وعرضا لقال هؤلاء بأنهم ضد الإسلام والمسلمين.
ثم في بداية التسعينات تحاربت الفصائل الأفغانية ضد بعضها بشراسة إلى مرحلة طالبان التي كان فيها ضوء أخضر أمريكي كما يقال حينها، وكان بالإمكان دخولها المجتمع الدولي والاعتراف بها حتى مع تشددها، ومع ذلك استطاع الهياط الجهادي ضد أمريكا تخريب كل شيء، وبدلا من أن ينشغلوا في بناء البلد الأفغاني الخارج من حرب أهلية، راحوا يخططون لغزو أمريكا وتحرير فلسطين بإنشاء الجبهة العالمية. وكان أنصار هذه الهياط الجهادي كثيرين حينها حتى بسكوتهم وعجزهم عن نقدهم. ومع ذلك كانت مرحلة كلينتون ترد على تفجيرات كينيا ونيروبي بمجرد صواريخ من المحيط وكم ضربة جوية دون غزو كامل. إلى أن جاءت لحظة 11 سبتمبر وأعادت رؤية الوضع بصورة كلية وسقوط طالبان وحتى العراق، وهو أحد نتائج التحرش بالدول الكبرى بسبب الهياط الجهادي الذي يصفق له الكثيرون حينها سرا وعلانية، فالزرقاوي مجرد حلقة من الحلقات..
وأنا أكتب هذا اللمحات مستحضرا كل السجالات التي حاولت فيها منذ التسعينات وقبلها مناقشة هذه العقليات المتطرفة بصبغة دينية أو ثقافية. ولا داعي للقول بأن حتى داعش في بدايتها تركت على الطريقة الطالبانية، وكان يمكن أن تتحول إلى قوة عقلانية تفاوضية للسنة داخل العراق يمكن التفاهم معها لكنها تجاوزت واستفزت العالم بعدة صور كأحد مخرجات الذهنية الجهادية. لم ينته الحديث سأعود مرات لتوضيح أساليب اللف والدوران والعلل الأولى لها تفاصيل طويلة. ولهذا أي تجاهل بأن إرهاب الفكر الجهادي في هذا العصر مشكلته بالأصل هي «فكرة»، هذه الفكرة لم تصنع في الغرب ولا في الشرق هي منتج داخلي، ولهذا هو عقيم بمنطقه الكلي، وعقيم عمليا، فمنذ أربعة عقود لم يفلح بأي شيء لصالح الشعوب.. وإنما لصالح القوى الأخرى التي يزعم أنه يحاربها!
[email protected]
هذا التضخم والتنوع بالمعلومات جميعها يتيح الفرصة لتشتيت الوعي بالأزمة، عبر مماحكات جدلية تعطل قدرتنا للسيطرة على المشكلة ورؤية أبعادها الحقيقية والهامشية، بعد أحداث 11 سبتمبر افتتح عبدالله النفيسي في لقاءاته مع أحمد منصور هذه اللغة السياسية الحلزونية التي تنفخ بمستمع اللحظة وتطرب غروره.. وشاركه مئات من الأسماء من كتاب في صحفنا ومنتديات الانترنت وخطباء ودعاة وجمهور عريض تم تلميع الحدث بحيل مختلفة، فمن يحصل له الشرف بإهانة قوى الاستكبار العالمي وأمريكا، والاحتلال الصهيوني وقضية فلسطين إلى آخره.
هذا الخطاب نجح أكثر من مرة في توريط الآلاف بعد تلك الأحداث وتمطيط زمن الإرهاب الذي لم يضر لا قوى الاستكبار العالمي ولا إسرائيل ولا الأنظمة المستبدة، ولا شعارات إسلامية ولا عروبية ولا وطنية، بل كان وبالا على الشعوب العربية وحقوقها ولا يزال. هل سيعتذر هؤلاء عن هذه اللغة التي كانوا يتحدثون بها، وقد انتقدت هؤلاء في تلك المرحلة وليس اليوم فقط.
واليوم كردة فعل يعود الخطاب الهجائي للآخر والغرب مرة أخرى دون أن يتغير منه شيء، باستثناء جملة وجملتين يتبرأ فيها المتحدث من الإرهاب. ويساعد على ذلك فعلا مستجدات كثيرة محبطة أصبح فيها المجتمع الدولي بأسوأ حالاته الأخلاقية وهو يتفرج على تهجير وقصف الشعب السوري. أظهرت سلبيات الغرب المتفرج على ما يحدث في سوريا.. وطالت حالة الانتظار فأصبح هناك غضب عربي مشترك من كل الأطياف والتيارات وحتى الاتجاه الحكومي، في نقد أمريكا والغرب هذه الفترة.
لم يتحول طرح تنوع أسباب الإرهاب إلى مسارات إيجابية في إثراء الوعي بصعوبة الظاهرة وتفسيراتها، وإنما أصبح أسلوبا يستعمله كثيرون للتغطية على أخطاء معينة عند كل طرف. ما هو الحد المسموح باستحضار الماضي والآخر؟ فالطريقة السائلة في استحضار التاريخ على شكل لقطات انتقائية يسهل علينا تبرئة أنفسنا من المشكلة. بعد تفجيرات بروكسل كان هناك حوار «ساعة حرة» على قناة الحرة وكان أحد الضيوف هو محمود رفعت رئيس المعهد الأوروبي للقانون والعلاقات الدولية، يستحضر بأن هذه الجماعات ليست مفكرة وأنها جماعات همجية.. ثم يقول «إن هذه الجماعات لها عمق آخر يعود إلى مفجر هذه الجماعات واستقبال رونالد ريجان لطالبان في البيت الأبيض... الذين هم فيما بعد رموز القاعدة موجودون في البيت الأبيض في الثمانينات وكان مشهورا جدا عن الأمريكان والساسة في ذلك الوقت أنهم يظهرون الدولار ويقولون لهم انظروا! إنه مكتوب عليه (نحن نثق بالله) ونحارب السوفيت عدونا وعدوكم المشترك.. وإذا أردنا أن نحل لا بد أن نحل من هنا..»
بغض النظر عن كثير من التفاصيل، أصلا بداية جماعات التكفير وقياداتها هي منذ الستينات كأحد مخرجات المرحلة الناصرية واستبداديتها، وهذا قبل حكاية البيت الأبيض بعقدين، ثم استمرت الأنظمة العربية العسكرية بتوليد التطرف من النظام السوري إلى صدام والقذافي وابن علي وغيرهم، ولو لم تقف أمريكا مع الجهاد الأفغاني ضد الغزو السوفيتي طبعا لمصلحتها، وتدعمه مع جميع الأنظمة الإسلامية طولا وعرضا لقال هؤلاء بأنهم ضد الإسلام والمسلمين.
ثم في بداية التسعينات تحاربت الفصائل الأفغانية ضد بعضها بشراسة إلى مرحلة طالبان التي كان فيها ضوء أخضر أمريكي كما يقال حينها، وكان بالإمكان دخولها المجتمع الدولي والاعتراف بها حتى مع تشددها، ومع ذلك استطاع الهياط الجهادي ضد أمريكا تخريب كل شيء، وبدلا من أن ينشغلوا في بناء البلد الأفغاني الخارج من حرب أهلية، راحوا يخططون لغزو أمريكا وتحرير فلسطين بإنشاء الجبهة العالمية. وكان أنصار هذه الهياط الجهادي كثيرين حينها حتى بسكوتهم وعجزهم عن نقدهم. ومع ذلك كانت مرحلة كلينتون ترد على تفجيرات كينيا ونيروبي بمجرد صواريخ من المحيط وكم ضربة جوية دون غزو كامل. إلى أن جاءت لحظة 11 سبتمبر وأعادت رؤية الوضع بصورة كلية وسقوط طالبان وحتى العراق، وهو أحد نتائج التحرش بالدول الكبرى بسبب الهياط الجهادي الذي يصفق له الكثيرون حينها سرا وعلانية، فالزرقاوي مجرد حلقة من الحلقات..
وأنا أكتب هذا اللمحات مستحضرا كل السجالات التي حاولت فيها منذ التسعينات وقبلها مناقشة هذه العقليات المتطرفة بصبغة دينية أو ثقافية. ولا داعي للقول بأن حتى داعش في بدايتها تركت على الطريقة الطالبانية، وكان يمكن أن تتحول إلى قوة عقلانية تفاوضية للسنة داخل العراق يمكن التفاهم معها لكنها تجاوزت واستفزت العالم بعدة صور كأحد مخرجات الذهنية الجهادية. لم ينته الحديث سأعود مرات لتوضيح أساليب اللف والدوران والعلل الأولى لها تفاصيل طويلة. ولهذا أي تجاهل بأن إرهاب الفكر الجهادي في هذا العصر مشكلته بالأصل هي «فكرة»، هذه الفكرة لم تصنع في الغرب ولا في الشرق هي منتج داخلي، ولهذا هو عقيم بمنطقه الكلي، وعقيم عمليا، فمنذ أربعة عقود لم يفلح بأي شيء لصالح الشعوب.. وإنما لصالح القوى الأخرى التي يزعم أنه يحاربها!
[email protected]