أحمد الهلالي

العِلم.. مصباحٌ مشطور!!

الأربعاء - 23 مارس 2016

Wed - 23 Mar 2016

(العِلم) مصدر عام من (عَلِم) يدل على تعلم كل شيء، اشتقّ منه اسم الفاعل (العالم)، واسم المفعول (معلوم) لكل جديد يتعلمه الإنسان، وغالبا يظل هذا المصطلح على عموميته إلا عند المسلمين إذ يرونه قسمين، الأول:(العلم الشرعي) والثاني: (العلم الدنيوي) ثم يطول الحديث في فضل الأول ووجوب تعلمه، لكن اللغة تبدو باهتة حين تتحدث عن (العلم الدنيوي)، ويظل كل امتداح للعلم في القرآن والسنة مقصورا على (العلم الشرعي) وكذلك القصر يمتد إلى (العالم) الفقيه فقط، ومثله قصر لقب (طالب العلم) على طلاب العلم الشرعي فقط، وهذا القصر يتبعه قصر الآثار الدينية في مثل فضل العالم على العابد، أو حف الملائكة بأجنحتها، وإسقاط (الرويبضة) على كل عالم من خارج المنظومة الفقهية يعارضها، وربما لولا حاجة التوظيف لظلت الكليات غير الشرعية خاوية على علومها.

حين تتصفح موقع (إسلام ويب) للفتاوى، ستجد الكثيرين يستفتون عن تعلم العلوم الدنيوية وهل فيها إضاعة للوقت، وهل يدخل العلم الدنيوي في أفضلية العلم؟ وما حكم من يستشهد بالآثار الإسلامية على فضل العلم بصفة عامة، حتى تجد من يسأل عن جواز تعلم نظرية فيثاغورس في علم المثلثات؟ وغيرها من الأسئلة التي لم أُحط بها في فضاء الفتاوى والإنترنت، المهم هنا أن الفتاوى التي قرأتها لم تحرّم العلم الدنيوي، لكنها توحي بالانتقاص منه، وفتور الحث عليه، وذب كل محاولة لربط الآثار الإسلامية به.

قبل أيام وصلتني رسالة عبر الواتس اب مضمونها: أن فقيها (مجهولا) يُفحم علماء الحضارة الغربية المشغولين بالفضاء والقمر، بأنهم يصعدون إلى مخلوق، أما نحن المسلمين فنصعد إلى الخالق مباشرة، وفي تداول هذه الرسالة (المخدِرة) ما فيها من تزهيد أبنائنا المقبلين على العلوم، وصرف عقول الكثيرين بهذا التفتير والتقليل من شأن علوم الدنيا، متناسين الآيات القرآنية الحاثة على التأمل والتدبر والتفكر في كل هذا الكون وأنفسنا، ومتناسين أن عمارة الأرض ليست مقصورة على التعبد والعلوم الشرعية بما يجوز وما لا يجوز، ومتناسين أيضا أن الله لم يقصر (القوة) في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) على القوة العسكرية، بل القوة تفوق كل هذه التصورات إذا آمنا اليوم بالقوى الاقتصادية والمعرفية والثقافية والصناعية، المعتمدة وغيرها على القوة (العلمية) ثم جاءت بعدها في الآية (ومن رباط الخيل) تعبيرا بالجزء عن الكل، قصدا إلى (القوة العسكرية)، التي إن اعتمدت على الشراء والاستيراد فليست إلا قوة موقتة فانية.

لو تأملنا اليوم حال الدول التي لا تملك الكثير من القوى المذكورة آنفا، سنجدها في ذيل العالم واهتماماته، ولو نظرنا إلى الدول التي تملك جل القوى سنراها في قمة الفعل والاهتمام الدولي، ثم إذا تأملنا حال دولنا الخليجية سنجد قوتها الاقتصادية تدفعها إلى مراكز متقدمة، لكن المؤسف أن نترك هذه القوة تستهلك نفسها وتتآكل دون توظيفها في بناء (قوة علمية) حقيقية، ومعرفية شاملة، تخلق قوى أخرى، وتدعم القوة الاقتصادية أيضا، فما دمنا نجزئ العلم إلى واجب ومندوب فنحن نسير في الاتجاه الخاطئ تماما، وسنستهلك اقتصادياتنا حتى نصطدم بقاع الحقيقة، ولن يكون اصطداما ناعما على الإطلاق.

العلم على إطلاقه طريق النور والحقيقة والأفضلية، وحسب كتاب (التوارة والإنجيل والقرآن والعلم) للفرنسي موريس بوكاي، فالقرآن أكثر الكتب السماوية موافقة للعلوم الطبيعية والمكتشفات الحديثة، وهذا يقود إلى اعتبار القرآن كتابا علميا لا يكتفي بطريق العلم الشرعي للوصول إلى الله، بل يحث على العلوم الدنيوية أيضا لتقوية الإيمان وإقامة الحجة والبرهان على كل الناس، وقد دفع الكثير من العلماء الطبيعيين إلى الإسلام، فلماذا ينحّي علماؤنا أدلة القرآن جانبا ـ دون قصد طبعا ـ ويقصرون أفضلية العلم على العلوم الشرعية، واعتبار غيرها أقل درجة ومنزلة، وتقنين أهميته بحاجة الأمة إليه، وكأننا بلغنا الترف تشبعا بالعلوم، ونحن قابعون تحت خطوط الفقر العلمي كلها!!

دولتنا ـ وفقها الله ـ أسست هيئة لكبار العلماء، وهذه الهيئة تضم كبار الفقهاء وعلماء الشريعة، ويوحي المسمى بتأصيل مبدأ (العلم الشرعي فقط) وعدم النظر إلى كل علماء العلوم الدنيوية أيا كانت قاماتهم وما يعلمون، ولو خُصص المسمى (هيئة كبار الفقهاء) أو (هيئة كبار العلماء الشرعيين) لأوحى أن هناك هيئات علمية لكبار العلماء الآخرين ستنشأ قريبا، فماذا يمنع أن تكون لدينا هيئات لكبار علماء الطب والهندسة والفلسفة والفلك واللغة والأدب والتأريخ والصناعة، والعلوم العسكرية والفنون وغيرها؟ أو أن تضم هيئة كبار العلماء مجالس لكبار علماء العلوم الأخرى تحت ذلك المسمى العام (هيئة كبار العلماء) ويظلون جميعا مرجعا أصيلا لكل سياسات بلادنا في شتى العلوم والأحوال، دون تجزئة ولا تفضيل.

[email protected]