بدونها يتلاشى الاهتمام..

الأربعاء - 23 مارس 2016

Wed - 23 Mar 2016

هل تصدّق أن استمرارك في قراءة هذا المقال قد يكون مؤشّرا إحصائيا لسمنتك وتفوّقك الدراسي وفصاحة لسانك وقدرتك على التخطيط؟ يوم الاثنين الفائت كان يوم المياه العالمي، يوم آخر لا يعرف عنه أحد في تقويم الأمم المتحدة. من المفترض أن يكون هذا اليوم مهما لكل أحد ولنا كسعوديين تحديدا، لأن هذه الأرض القاحلة فقدت حرفيا 80% من مياهها الجوفية وهي التي تعاني من جفاف السماء، وتواجه مصاعب حقيقية للبقاء على قيد الحياة. ولكن، هل يُبدي السعوديون أي اهتمام حقيقي وسلوكي نحو هذه المشكلة التي نعرف أن عواقبها مرعبة؟ غالبا لا. هنا التفسير:

في بداية السبعينات الميلادية، كانت هناك تجارب لاختبار سلوك الإنسان: هل هو كائن متهوّر يطمع في المكافآت الفورية والاستمتاع بها (مباشرة)، أم هو كائن متأنّ، يخطّط، ويركّز ليحصل على النتائج الأفضل التي سينالها (لاحقا) لو صبر. في هذه التجربة، يُعطى الطفل قطعة حلوى واحدة ويُترك في الغرفة بمفرده، على أنّه إذا استطاع أن يصبر 15 دقيقة دون أن يأكل هذه الحلوى، سيحصل على قطعتين. لم يكن مفاجئا أن الأغلبية الساحقة من المشاركين اندفعت واختارت التلذّذ بالقطعة الواحدة دون أي اكتراث بالمكافأة الأكبر بعد دقائق!

دماغنا مُصمّم بنزعة عارمة لتحصيل المكاسب الفورية instant gratification، دون اعتبار البدائل الأفضل على المدى البعيد. هذه النزعة لم تفوّتها الشركات، فتحوّلت لعصا قاسية بيد وحوش الرأسمالية. هل تأملت في إدمانك لشبكات التواصل؟ أحد عوامل هذا الإدمان هو حصولنا على ردود فورية و«لايكات» مباشرة تشبع الأنا المتضخّمة التي تقبع في داخلنا. هل مَررت على كُتب تحمل عناوين بلهاء مثل: «نزّل وزنك في أسبوعين»، أو «طريقك للثراء في 30 يوما»؟ أو هل جرّبت بعض التطبيقات التي تمنحك رصيدا مجانيا فور مشاركتك؟ هذا الإشباع السريع يغازل الدماغ المتلهّف ويلبّي نزعة الاندفاع.

الاندفاعية هذه قد تأخذ منحنى أكثر قساوة عندما تتعلّق بمواضيع الحياة الكبرى. هل تعرف أحدا تخلّى عن الدراسة الجامعية لأجل الحصول على تدريب ووظيفة فورية براتب «كويّس»؟ كم من أقربائك ضاربَ في الأسهم بكل تهوّر طمعا في الأرباح السريعة؟ كيف تؤثر علينا المخدّرات؟ المفهوم الجامع وراء هذه القصص هو: اللذة السريعة والنهايات المُحبِطة. وفي الجانب الأخير، انعدام النتائج الفورية يفسّر لماذا ما يقارب 7 من كل 10 من مشتركي برامج التخسيس يتكاسلون ويتوقفون عن الذهاب للصالة الرياضية خلال أشهر بسيطة، ولماذا نتوقف عن تنفيذ أهداف السنة الجديدة بمجرد مرور شهر، ولماذا لا نهتم بمسائل مصيرية مثل الاحتباس الحراري والجفاف المائي. المبدأ واحد: بدون نتائج سريعة، يتلاشى الاهتمام!

يُعرف هذا المفهوم في علم النفس بـ«مبدأ الاستمتاع» Pleasure Principle، الذي يُولَد معنا فور خروجنا من أرحام أمهاتنا، حيث نصرخ مُطالبين بالغذاء حالا وفورا دون أي مراعاة لما يدور حولنا، وعندما نُطعَم نشعر وأننا حزنا الأرض وما عليها. وهكذا تنمو آلية المكافآت السريعة مع نمو أجسادنا، إلى أن يستطيع البعض السيطرة عليها بالخبرة والنُضج الشخصي وأساليب التحكّم بالنفس.

أما بالنسبة للأطفال المشاركين في (تجربة الحلوى)، فبعد سنوات طويلة، تمت متابعتهم لاختبار بعض الصفات الشخصية، وهنا كانت المفاجأة! الأطفال الذين صبروا وتغلّبوا على شهواتهم المندفعة، سجّلوا في شبابهم درجات أعلى في اختبارات الذكاء والقياس الجامعية، كانت أوزانهم أقل، كانت مهاراتهم الاجتماعية أكثر تقدّما، كانت لغتهم أكثر فصاحة، كما سجّلوا مستويات أعلى في مواجهة ضغوط العمل والتخطيط للأهداف الوظيفية. وما زالت الدراسات تختبر أثر ذلك الصبر على حياة هؤلاء الأشخاص مقارنة بالمشاركين الآخرين الذين تبعثروا مباشرة أمام قطعة الحلوى. فالطفل الذي قاوم وتحكّم بنفسه أمام تلك الحلوى اللعينة أصبح صالحا للحياة بشكل أفضل.

أثناء كتابة هذا المقال، ظلّت آيات الصبر تغازلني كثيرا، فكلما قرأت الأبحاث والدراسات حول (تأجيل النشوة) delayed gratification، قفزت في مخيّلتي فلسفة الإسلام حول مفاهيم الثواب والعقاب، والتي من الممكن اختصارها في كبح الملذّات والمكافآت العاجلة، لأجل المكاسب الكبرى من السماء (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون). نعم، الاندفاعية سِمة بشرية، ونعم التحكّم بها مهارة تتطلّب الكثير من الصبر والتمرينات الذهنية ولكنها مهارة ممكنة. فبعض الأطفال في التجربة، استطاعوا تحقيق هدفهم بأن أداروا ظهرهم على قطعة الحلوى، وبعضهم أغمض عينيه، وبعضهم ظلّ يلوّح بعينيه في السقف، كما يعكسه التسجيل المنشور للتجربة.

والآن هل امتلكت الصبر الكافي لقراءة المقال؟ وهل ستهتّم بمشكلة المياه لتحفظ الأرض لمن يعيشون بعدنا أم إنك ستستمر في سفك المزيد منه لنشوة الدفء تحت «الشاور»؟.