جورج طرابيشي: موت النخبة في زمن الضياع الثقافي

السبت - 19 مارس 2016

Sat - 19 Mar 2016

لم يحدث رحيل المفكر السوري الكبير جورج طرابيشي ذلك الدوي بين مرتادي وسائل التواصل بما يتناسب مع ما تركه من إرث تنويري فكري وثقافي حتى زخمت المكتبة العربية بمؤلفاته وترجماته لكبار مفكري علم النفس والأدب. مرت وفاته عابرة بندرة للتايم لاين مع خضم حمى التتبع السياسي وآثاره الحربية الطاحنة ومآثره الاقتصادية الموجعة، والزمن الذي نعيشه تختلط في حقائبه فوضى مرتزقة الثقافة من المتملقين للمصالح الفردانية وكثرتهم التي تغلب شجاعة الندرة من مثقفي التنوير ورواد الأدب الراقي فضلا عن امتلاء المدى بتلك الجحافل من المحللين السياسيين في جميع الأعمدة الصحفية ووسائل التواصل بما لا يفي للتخصص السياسي حقه ولا يعطي للنظريات السياسية والقانونية على الأرجح حقها في الامتثال التثقيفي في ثنايا التحليلات والتأويلات وبما يغيب رجاحة الصفوة في عالم الكتابة السياسية الرصينة.

المجتمع مضطرب وفقا للظروف الاجتماعية التي تعم أرجاء الوطن العربي الراهن والحالة الثقافية أشبه بوصفة عطار شعبية مشوبة بقطرات من كل مسحوق عشبي يجدي نفعا لوحده ولكنه يخل باجتماعه مع الأصناف نجاعته وهويته. في الوقت الحاضر تمر المجتمعات وهويتها الثقافية بتغيرات اجتماعية معقدة، هذا التعقيد برغم فوضويته في العقود القليلة المتعاقبة الماضية على الساحة الثقافية ومحاولته القائمة إلى تغيير القيم والمجتمعات إلا أن ذلك قد يفضي مستقبلا لإعادة خلق مجتمع حديث متمدن طبيعي يهيئ لخلق صفوات ثقافية وقامات فكرية تتضح معها رؤية التنوير الثقافي الذي لا نكاد نراه الآن إلا من وراء حجب يحمل مشاعلها ثلة قليلة من نخب جيل الثمانينات، وما تلبث أن تتوهج إضاءة أحدهم لضبابية الساحة الثقافية إلا ويعقب الوهج تثاؤب سرمدي مؤبن بوداع قامات لن تعود، ولم يعد لحالتها أمل في توالد مستقبلي محتمل.

لحد الآن لا يمكن الحكم على نشوء صفوات اجتماعية مدنية جديدة على مستوى المجتمعات، وبالمثل لا يمكن الحكم على انهيار براعم النشء أو محاولاته، فالتغيرات الأمنية والسياسية والأيديولوجية مهيبة عاصفة لم تشهد على مثل تسارع وتيرتها حقبة زمنية ثقافية مثلما نشهده الآن، فوفاة الموسوعي جورج طرابيشي جاء في مرحلة تفتقد الهوية الثقافية النخبوية جزءا كبيرا من ملامحها في أنفس أغلبية مرتادي ساحات الثقافة، وكنا نظن أن الوضع كان أكثر سوءا حينما افتقدنا قامات عربية سبقت أمثال المفكر السوداني الطيب صالح أو السعودي غازي القصيبي أو العراقية نازك الملائكة وغيرهم.