جدة والحداثة.. أحلام الفتى الأسمر
الجمعة - 18 مارس 2016
Fri - 18 Mar 2016
كان الدكتور سعد مصلوح من أقدم أساتذة قسم اللغة العربية وآدابها، بجامعة الملك عبدالعزيز بمدينة جدة، ومن الجيل الأول المؤسس للقسم. وفد على جدة عام 1398 (1978)، شابّا في الخامسة والثلاثين من عمره، بعد أن حاز درجة الدكتوراه بثلاث سنوات، وكان قد ظفر بها من جامعة موسكو.
لم يكن قسم اللغة العربية حين أشرف القرن الهجري الرابع عشر على نهايته قسما أكاديميا مختصا، وإنما كان قصارى القسم وقصارى أساتذته السعوديين والعرب أن يدرِّسوا مواد عامة في اللغة العربية وآدابها، لطلبة الجامعة، وطلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية فيها، وما إن أمضى الأستاذ الشاب سنتين، حتى أصبح للغة العربية قسم علمي يختلف إليه الطلاب، ثم يظفرون بإجازة جامعية فيها، وشاء القدر لذلك الجيل الأول من الأساتذة أن نعتدهم الآباء المؤسسين لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك عبدالعزيز، ومن بينهم ذلك الشاب الصعيدي الأسمر سعد مصلوح.
عرف النقد العربي الحديث، والحداثي منه خاصَّة، غير اتجاه من اتجاهاته التي تؤول جميعها إلى الدرس اللغوي الحديث، ذلك الدرس الذي كان قد أسسه ووضع أصوله عالم اللغة السويسري المشهور فرديناند دي سوسير، فإذا بنا نعرف، بعد ذلك، مذاهب واتجاهات ومناهج في اللغة والفلسفة والعلوم الاجتماعية والنقد الأدبي، كلها ترفع أنسابها إلى دروس ذلك العالم الذي توفَّاه الله عام 1913، فانقطع واحد من تلاميذه لتحرير تلك الدروس، حتى إذا عرفت طريقها إلى المطبعة وظهر عليها القراء والعلماء، تغيَّر وجه الفكر والعلم والمعرفة في العالم كله.
عرف النقد العربي، بأَخَرَةٍ، تلك المذاهب والمناهج النقدية الحديثة، وأهمها الأسلوبية، والبنيوية – أو الهيكلية كما كانت تدعى!- وأولع بهذه الأخيرة نفر من النقاد والباحثين ولعا عجيبا، حتى عُدت «آية هذا الزمان»، وتفرعت البنيوية، فإذا بنا إزاء «بنيويَّات» مختلفة، وصار كل ناقد، ولا همَّ له إلا أن يقتطع قطعة منها، ويعرف بها، وصار لنا من ذلك الولع السابقون والمجلُّون والمصلُّون، في كلام تشعَّبت مذاهبه وطرقه ليس هنا محل بيانه.
كان سعد مصلوح، ولا يزال، واحدا من أولئك النقاد الذين وضعوا العلامات والصوى، ومهدوا الطريق لأجيال من النقاد والدارسين، يوم ألفى نفسه، وهو سليل مدرسة عريقة لعلم اللغة في مصر، قبل أن تعدو عليها عوادي الزمن – رائدا لعلم الأسلوب الإحصائي في النقد العربي الحديث، لا يخط باحث عبارة في هذا الضرب من النقد، أو يحرر قولا، دون أن يديم نظره في كتبه وبحوثه التي أوسعت هذا العلم بسطا وتأسيسا وتقعيدا، وحدِّثْ، بعد ذلك، عن هذا المنهج الذي أراد له صاحبه أن يهتدي بمنهج العلم في قراءة الأدب، شعره ونثره، ويحفظ به للنقد هيبته، فلا يرتقيه إلا من أخذ بحقه، وحقه أن «يعقلن» الذوق، فلا يجنح في غابة الكلمات والعبارات المجازية التي لا تقدِّم علما، وإن ادعَّتْ ذلك.
جاء الشاب الصعيدي الأسمر سعد مصلوح إلى مدينة جدة، قبل أن يلفظ القرن الهجري الرابع عشر أنفاسه، وفي رأسه تصطرع مناهج اللغة، وشاء، وهو الأديب الشاعر، أن يمد إلى نقد الأدب نسبه، وهاله أن رأى «النقد الأدبي»، قد توزع دمه في قبائل العلوم والمناهج؛ ادَّعاه المؤرخون، وخاض فيه علماء الاجتماع، وأصبح مطية لتجارب علماء النفس، وأولع به فلاسفة الأفكار، أما أهل اللغة – من عشيرة سعد مصلوح – فقد أصبحوا، وكأنهم قوم جُنُبٌ، لا تصلهم بالأدب صلة، هذا والأدب إنما قوامه كلمات اللغة، ومن أحقّ بالأدب والنقد الأدبي من علماء اللغة والضاربين فيها بسهم؟ فهم - بعد أن أعرضوا عن النقد الأدبي - أولياء دم هذا «الفن» المستباح!
ويخيل إلي أن سعد مصلوح لم يشأ أن يندب حظه، حين ساقه القدر إلى جدة، ولم يكن له إلا أن يسوق مفردات يسيرة في النحو والصرف لطلاب الجامعة، ولعله أسف على السنوات التي أنفقها في دار العلوم، قلعة الدراسات اللغوية، ثم في موسكو، فإذا به لا يختلف عن مدرسي النحو والصرف في التعليم العام، إلا أن اسمه مسبوق بلقب أكاديمي، أما ما سوى ذلك فلا فرق بينه وبينهم!
ولكن، لا بأس! فعسى أن وهبته مدينة جدة فراغا لم يكن ليفوز به لو كان في القاهرة الصاخبة بتيارات السياسة وتقلباتها في تلك المدة، فحنت عليه عروس البحر، فخلا إلى مشروعه النقدي الذي اقتحمه، غير متهيب ولا وجل، وكان قدرا مقدورا لسعد مصلوح أن يؤلف كتابه الرائد «الأسلوب، دراسة لغوية إحصائية»، في أثناء مقامه في مدينة جدة، وفي أثناء نهوضه بالتدريس في قسم اللغة العربية وآدابها، عام 1400 (1980)، ولا يكتفي بذلك، ولكنه أبى أن يجعل هذا القسم الوليد رائدا حين أصبح «علم الأسلوب» مادة من المواد الدراسية التي قررت على طلابه، حتى إذا تحول عن جدة وآب إلى بلاده، قبل أن يضرب في الأرض مرة أخرى، كان قد ترك أثرا منه لا تبليه الأيام مهما تقادمت السنون.
لم يكن قسم اللغة العربية حين أشرف القرن الهجري الرابع عشر على نهايته قسما أكاديميا مختصا، وإنما كان قصارى القسم وقصارى أساتذته السعوديين والعرب أن يدرِّسوا مواد عامة في اللغة العربية وآدابها، لطلبة الجامعة، وطلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية فيها، وما إن أمضى الأستاذ الشاب سنتين، حتى أصبح للغة العربية قسم علمي يختلف إليه الطلاب، ثم يظفرون بإجازة جامعية فيها، وشاء القدر لذلك الجيل الأول من الأساتذة أن نعتدهم الآباء المؤسسين لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك عبدالعزيز، ومن بينهم ذلك الشاب الصعيدي الأسمر سعد مصلوح.
عرف النقد العربي الحديث، والحداثي منه خاصَّة، غير اتجاه من اتجاهاته التي تؤول جميعها إلى الدرس اللغوي الحديث، ذلك الدرس الذي كان قد أسسه ووضع أصوله عالم اللغة السويسري المشهور فرديناند دي سوسير، فإذا بنا نعرف، بعد ذلك، مذاهب واتجاهات ومناهج في اللغة والفلسفة والعلوم الاجتماعية والنقد الأدبي، كلها ترفع أنسابها إلى دروس ذلك العالم الذي توفَّاه الله عام 1913، فانقطع واحد من تلاميذه لتحرير تلك الدروس، حتى إذا عرفت طريقها إلى المطبعة وظهر عليها القراء والعلماء، تغيَّر وجه الفكر والعلم والمعرفة في العالم كله.
عرف النقد العربي، بأَخَرَةٍ، تلك المذاهب والمناهج النقدية الحديثة، وأهمها الأسلوبية، والبنيوية – أو الهيكلية كما كانت تدعى!- وأولع بهذه الأخيرة نفر من النقاد والباحثين ولعا عجيبا، حتى عُدت «آية هذا الزمان»، وتفرعت البنيوية، فإذا بنا إزاء «بنيويَّات» مختلفة، وصار كل ناقد، ولا همَّ له إلا أن يقتطع قطعة منها، ويعرف بها، وصار لنا من ذلك الولع السابقون والمجلُّون والمصلُّون، في كلام تشعَّبت مذاهبه وطرقه ليس هنا محل بيانه.
كان سعد مصلوح، ولا يزال، واحدا من أولئك النقاد الذين وضعوا العلامات والصوى، ومهدوا الطريق لأجيال من النقاد والدارسين، يوم ألفى نفسه، وهو سليل مدرسة عريقة لعلم اللغة في مصر، قبل أن تعدو عليها عوادي الزمن – رائدا لعلم الأسلوب الإحصائي في النقد العربي الحديث، لا يخط باحث عبارة في هذا الضرب من النقد، أو يحرر قولا، دون أن يديم نظره في كتبه وبحوثه التي أوسعت هذا العلم بسطا وتأسيسا وتقعيدا، وحدِّثْ، بعد ذلك، عن هذا المنهج الذي أراد له صاحبه أن يهتدي بمنهج العلم في قراءة الأدب، شعره ونثره، ويحفظ به للنقد هيبته، فلا يرتقيه إلا من أخذ بحقه، وحقه أن «يعقلن» الذوق، فلا يجنح في غابة الكلمات والعبارات المجازية التي لا تقدِّم علما، وإن ادعَّتْ ذلك.
جاء الشاب الصعيدي الأسمر سعد مصلوح إلى مدينة جدة، قبل أن يلفظ القرن الهجري الرابع عشر أنفاسه، وفي رأسه تصطرع مناهج اللغة، وشاء، وهو الأديب الشاعر، أن يمد إلى نقد الأدب نسبه، وهاله أن رأى «النقد الأدبي»، قد توزع دمه في قبائل العلوم والمناهج؛ ادَّعاه المؤرخون، وخاض فيه علماء الاجتماع، وأصبح مطية لتجارب علماء النفس، وأولع به فلاسفة الأفكار، أما أهل اللغة – من عشيرة سعد مصلوح – فقد أصبحوا، وكأنهم قوم جُنُبٌ، لا تصلهم بالأدب صلة، هذا والأدب إنما قوامه كلمات اللغة، ومن أحقّ بالأدب والنقد الأدبي من علماء اللغة والضاربين فيها بسهم؟ فهم - بعد أن أعرضوا عن النقد الأدبي - أولياء دم هذا «الفن» المستباح!
ويخيل إلي أن سعد مصلوح لم يشأ أن يندب حظه، حين ساقه القدر إلى جدة، ولم يكن له إلا أن يسوق مفردات يسيرة في النحو والصرف لطلاب الجامعة، ولعله أسف على السنوات التي أنفقها في دار العلوم، قلعة الدراسات اللغوية، ثم في موسكو، فإذا به لا يختلف عن مدرسي النحو والصرف في التعليم العام، إلا أن اسمه مسبوق بلقب أكاديمي، أما ما سوى ذلك فلا فرق بينه وبينهم!
ولكن، لا بأس! فعسى أن وهبته مدينة جدة فراغا لم يكن ليفوز به لو كان في القاهرة الصاخبة بتيارات السياسة وتقلباتها في تلك المدة، فحنت عليه عروس البحر، فخلا إلى مشروعه النقدي الذي اقتحمه، غير متهيب ولا وجل، وكان قدرا مقدورا لسعد مصلوح أن يؤلف كتابه الرائد «الأسلوب، دراسة لغوية إحصائية»، في أثناء مقامه في مدينة جدة، وفي أثناء نهوضه بالتدريس في قسم اللغة العربية وآدابها، عام 1400 (1980)، ولا يكتفي بذلك، ولكنه أبى أن يجعل هذا القسم الوليد رائدا حين أصبح «علم الأسلوب» مادة من المواد الدراسية التي قررت على طلابه، حتى إذا تحول عن جدة وآب إلى بلاده، قبل أن يضرب في الأرض مرة أخرى، كان قد ترك أثرا منه لا تبليه الأيام مهما تقادمت السنون.