أحمد الهلالي

باب: درء المرور والشرور!

الجمعة - 18 مارس 2016

Fri - 18 Mar 2016

حدث ليجان السكمري في مخطوطه (مواقع الندوب في الأرواح والقلوب)، باب (المرور)، وهو باب لا يفهم مصدرا للفعل (مرَّ) كما يظن أهل هذا العصر، بل يقاربه من جهة حين يكون جمع (مُر)، وصادف أن ذكر في حديثه مرارة المواصلات في عهده، وسأكتفي عن الباب المذكور بقول مقيّد دون إطالة أو تزيّد.

يقول ليجان: «اعلم يا رعاك الله أن المرور كثرة كاثرة، تنمو مع الرضيع حتى ينحني ظهره وينقطع أمله وصبره، ولعل أمرّ مرورنا في اليمامة هذه الأيام دقة صاحب الشرطة في تنظيم الطرقات والأسواق حتى جفّف على المعتذرين نبع أعذار تأخرهم عن بيوتهم، بعد أن كانت الزحمة نعمة لمن أراد الفسحة حتى تقيل الدواب، وإني لأعرف أقواما يخرجون من منازلهم غدوةً ولا يروحون حتى تتعانق (الفيايا)، وإن أولئك ليضيقون ذرعا بابن قيشوم (صاحب الشرطة) الفتى الرومي الذي كان مولى لأبي عكرمة الخرجي، وكان قد نظّم مزارعه وماله، حتى بلغ أمره الوالي فاصطفاه صاحبا للشرطة.

حين خرجنا من صلاة الجمعة في جامع اليمامة الكبير لم تكن الحال كما عهدناها الجمعة الفارطة، فقد صف الشرطيون الدواب كأنها خرز في سلك مسبحة زاهد على جانبي الطريق، وقد ثبتوا سلسلة طويلة على كل جانب يربط الرجل فيها دابته ليؤدي الصلاة، بعد أن كانوا يربطونها في كل مكان حتى في (زرافيل) باب المسجد، وبالكاد نجد من بينها وبين باعة المساويك والإقط والتمور فسحة للعبور، فقضى ابن قيشوم عليها جميعا، فسرنا في راحة لا يؤذينا زعيق ولا يكدر أسماعنا رغاء ولا نهيق، ولا يعلق بأرديتنا وبر ولا شعر، أو تزكم أنوفنا روائح الروث والبعر. ثم حين انفض الناس؛ سارت الدواب بهدوء وصمت خلف بعضها، لا تتعدى إحداها الأخرى، وكأن الشرطيين أبدلوا حناجرها بالحصى.

وباقترابي من السوق الكبيرة، فاجأني منظر سوق أخرى إلى جوارها، وحين دنوت ظننتها سوقا للدواب، لكن الشرطي أشار أن أربط بغلتي هناك، بين مئات الدواب، فزجرته لأعلم جدية الطلب، فجحظ عينيه حتى شعرت برعدة أخفيتها بتفقد الخُرج، وقال: إن لم تربط بغلتك هناك فلن تدخل هذه السوق اليوم، فابن قيشوم أمامك. قلت: سأدخل رغما عن أنفه، قال: يبدو أن هذا اليوم سيكون آخر عهد هذه البغلة بك، ولا أعلم أيقصد أنه سيبعدني عن بغلتي إلى السجن، أم ستصبح مُلكا للشرطة، حينذاك تضاحكت وربطتها، ثم دخلت السوق الخالية من كل الدواب، حتى دواب الشرطة، فأيقنت أن الأمر جد وعدل، فتبضعت بيسر، وإني لا أتذكر يوما من أيام عمري أنجزت فيه تبضعي في وقت قصير كذلك اليوم.

ومن المستعجب أننا لم نعد نسمع النهيق والصهيل والرغاء في حيّنا كلما هجعنا، فقد كان الصبية يتسللون ليلا، يسرقون الدواب ويخرجون بها إلى المزارع، حتى ألزم ابن قيشوم الأهالي بدوابهم، فليس مألوفا اليوم أن ترى الأطفال يجولون بها، وإن كان الأمر جلل فليس له إلا جر الدابة والسير أمامها أو الاكتراء، ولم يعد مألوفا أن ترى دابة كأنها البرق تثقب حوافرها هلعك فيندلق شتائم حين تمر بجوارك، فإن سلمت من حوافرها فلا سلامة من عثرة، وحدث أن أكرمني الله في دكان صديقي نوفل ولقيت ابن قيشوم، وحين داعبته تبسم وقال بفصاحة:

«أعلم أنك تداعبني، كما داعبت الشرطي عند باب السوق، ولكني سأبشرك والحاضرين بأننا قضينا على مصائب الدواب، فلا سقوط عن دابة منذ تنظيمنا الجديد، ولا منهوش ولا مرفوس ولا عاثر ولا مدهوس، وقد ندُرت السرقات بعد إجبار الناس على تأمين الدواب، وإن كنت مازحا له عذره فغيرك توعر صدره، وقد اعتاد الفوضى كاعتياد أقوام يقال إنهم سيأتون في آخر الزمان في (جزيرة العرب)، دوابهم أكبر من دوابنا وأسرع، جسمها حديد، وأنفاسها النار، سريعة على الرمل والقار، لو دهست إحداها (ابن عوكب) لقتلته، وأشار إلى رجل سمين يتدلى لسانه ثالثا لشفتيه من فرط امتلائه، ثم استطرد: نحن في نعمة يا أهل اليمامة ما دمنا نؤمن بالنظام، وأنتم يا معاشر الكتاب لم تنقط أقلامكم قطرة حبر للمطالبة، ولم تطيّروا نداءاتكم إلى الوالي أو صاحب الشرطة لاختراع نظام حازم، ولم تتقطع أحبالكم الصوتية انتحابا على النظام، وأحبتكم يخطفهم الموت الزؤام، بالألوف كل عام، كما سيكون في جزيرة العرب (أجاركم الله)».

انتهى كلامه فأكبرت حماسته ومقامه، لكني ازدريت تكهناته وجرأته على الغيب بفوضويين يقتلون أنفسهم ويتقاتلون بدوابهم في جزيرة العرب دون رادع ولا رقيب، فكيف يجرؤ على هذا البهتان العظيم، وأظنني سأفند وأرد تكهناته المغلوطة في باب مستقل، لكن بعد أن يغلق الله باب (الشرور والمرور)!