أحمد الهلالي

المتنمرون في مأمن!

الجمعة - 11 مارس 2016

Fri - 11 Mar 2016

العنف ليس حالة أساسية حتى لدى الحيوان، فالحيوان لا يلجأ للعنف إلا حين يشعر بأمر يتهدد بقاءه، ويفترض أن يكون كذلك لدى الإنسان، فالكائن العاقل سيكون أقل عنفا على هذا الافتراض، فلا مبررات للعنف على الإطلاق وكل الأفعال البشرية العاقلة تجرم العنف حتى في حالات العنف البشري القصوى كالحروب والصراعات، كتجريم من يعتدي على النساء والأطفال والشيوخ، ومن يعذب الأسرى، وحتى المجرمين المقبوض عليهم في جنايات كبيرة تُجرم الحكومات والأجهزة الأمنية التي تنتزع اعترافاتهم بالإيذاء البدني أو النفسي.

ارتفعت حالات العنف في المملكة إلى أرقام مخيفة، ومع محاولات الشؤون الاجتماعية مد يد العون والمساندة إلى المعنفين سواء أكانوا أطفالا أم نساء؛ فإن البلاغات التي وصلت العام الماضي إلى ما يقارب ربع مليون بلاغ لا تشكل الرقم الحقيقي لما تخفيه جدران المباني؛ لأن كثيرا من المعنفين لا يجرؤون على الإبلاغ عن معنفيهم، ولا يستطيعون حتى البوح بأسباب العنف الذي تعرضوا له إن أصيبوا بإصابات تستوجب نقلهم إلى المستشفى، فيعزو إصابته بإيعاز من أسرته إلى السقوط أثناء اللعب وما شابه، ويظل ممارسو العنف في غيهم دون رادع ولا حسيب، بسبب الرعب الذي زرعوه في أعماق ضحاياهم.

لا أتحدث عن العنف من عاطفة رحموية إنسانية فقط، بل يتعدى حديثي إلى الشق الوطني والتنموي، فالعنف بأنواعه خاصة ضد الأطفال والمراهقين سواء أكان الجسدي أم النفسي أم الجنسي له آثار وخيمة على شخصياتهم مستقبلا، ويشكل حاجزا اجتماعيا رهيبا يؤثر دون شك في نظرتهم للمجتمع والحياة، ويؤثر عميقا في سلوكهم وإنتاجيتهم، وهذا بالطبع سينعكس على الوطن والتنمية، فمن يتجاوز منهم الاكتئاب والعقد النفسية المتعددة تتضاعف نسب إصابته بأمراض السكري وضغط الدم وغيرها، ويتعدى إلى تشكيل خطر على الأمن الأسري والمجتمعي.

معظم المنحرفين اليوم إلى مستنقعات المخدرات والشذوذ وعصابات الإجرام والقتل لا يخلو تاريخهم من التعرض لحالات عنف مختلفة، وصرنا نسمع بأنواع من الجريمة لم يكن معهودا في المجتمع كالانتحار وقتل الأطفال والزوجات وإبادة الأسر وربما الزملاء كحادثة (الداير)، وهذه الحالات لا يمكن عزوها إلى أي مسبب آخر لا يرتبط بالعنف في أصل التنشئة، سواء أكان عنفا أسريا أو مدرسيا أو اجتماعيا، فحالات العنف تصنع شروخا عميقة في النفس لا تبرأ حتى مع حركية الزمن، وخطورة هذه الجروح أنها لا ترى بالعين المجردة، لكن الحصيف يستطيع قراءتها في سلوكات الإنسان وانفعالاته.

القضية إذن قضية صحة وأمن مجتمع وإنتاجية وتنمية، ولا تزال الإجراءات في هذا الشأن دون المستوى المأمول سواء أكان من ناحية التحري عن حالات العنف، أو من ناحية التوعية، وزيادة وعي المجتمع نحو الظاهرة الخطيرة جدا، فجهود الشؤون الاجتماعية ورقم 1919 لا تكفي، وإنما هي جزء من الحل، ويجب أن ترتقي طموحاتنا إلى معرفة ما وراء الجدران الموصدة، فلو وعى المجتمع أهمية الوقوف في وجه الظاهرة؛ لما حالت العادات والتقاليد دون أن يبلّغ الجار عن جاره العنيف حين يسمع صراخ أطفاله أو زوجته، ولما تستر القريب على قريبه العنيف، ولو علم الصامتون أن صمتهم مؤذ للمعنِف والمعنَف معا؛ لبادروا إلى ما فيه مصلحتهما، فممارس العنف سيكبح جماح نفسه حين يعلم أنه يعاني حالة مرضيّة وسيعاقب على أفعاله، والممارس عليه العنف سينجو من مضاعفة جروحه النفسية التي ستدفعه إلى عنف مضاد مستقبلا ضد نفسه أو ضد المعنِف أو ضد المجتمع حتى.

سيكون الحال أقوم لو بادرت وزارة الشؤون الاجتماعية بمساندة وزارة الداخلية إلى تسيير فرق سرية للتحري، وألزمتا أصحاب البنايات والمحال التجارية والمدارس وغيرها بتركيب كاميرات خارجية لكشف بعض العنف الممارس ضد أبنائنا، وكبح جماح هذا الوحش، غير ما تقوم به الجهات الأخرى من دراسات وتوعية واهتمامات متنوعة تحمي المستضعفين من المتنمرين. ومن واجب وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية أن يظهر أطباء الطوارئ والأخصائيون الاجتماعيون والنفسيون إعلاميا ليدلوا بشهاداتهم ومشاهداتهم التي تتكرر يوميا في مناوباتهم حول المعنفين جسديا سواء بالضرب أم الحرق أم الطعن أم الحبس أم غيرها، وأن يناوب في كل قسم من أقسام الطوارئ موظف من الشؤون الاجتماعية يدقق في كل حالة ترد إلى المستشفى توحي ولو بنسبة بسيطة عن عنف ضد (أطفال أو نساء أو عجزة أو معاقين)، وكذلك أن تلزم وزارة التعليم كل منشآتها بعقد محاضرات شهرية للطلاب والطالبات في المدارس والجامعات والكليات، وأن تضج منابرنا في الخطب والمواعظ بتوعية المجتمع ضد العنف بلغة علمية واضحة وبث ثقافة محاربته اجتماعيا؛ لأن العنف (أبو كل الانحرافات والمشاكل) وكل ما يحدث ليس إلا ثمرة مُرة سامة من ثماره البشعة.