صالح عبدالله كامل

الويل لمن لا يفهم الزمان ويحمي المكان

السوق
السوق

الأحد - 06 مارس 2016

Sun - 06 Mar 2016

سبحان من طوّع الكلمة لبنانه، وتبارك الذي أجرى الحكمة على لسانه، وما شاء الله الذي منحه هذا الحضور، ليصنع من المناسبة روائع وجسورا، يقرأ الواقع دون مواربة أو حذر، ويستشرف القادم ليحذّر من الخطر، ولطالما دافع عن دينه ولوطنه انتصر، ورأى في التاريخ منهلا للذكرى والعبر. إنه مباشرة خالد الفيصل، الأمير الأديب، والشاعر المفكر، الذي يدوّن الطبيعة في لوحات بديعة، ويقول في رائعته التي أنشدها وغرد بها في منتدى جدة الاقتصادي:

أنا لا أكتب بالحروف أوهاما.. ولا أنسج من الأفكار أحلاما.. وإنما.. أستخلص من عِبَرِ الزمان دروسا.. وأزين من ومضات الفكر عروسا.. أرسلها مع ساري العمر ألحانا.. لأهل الرأي والفكر أشجانا.

بهذا الاستهلال الشجي، وبهذا الاستدلال السخي حدد صاحب السمو الملكي مدخله إلى قلوب الحاضرين وأسماعهم، وهيأ المنتدى كله لأطروحته الجديدة الأصيلة عن التحول، معلنا أنه قد حلّ في كل المجتمعات، وأحدث الكثير من التغيرات والتقلبات في جميع القارات، مؤكدا أن هذا التحول إذا قاده القادة وحكمته المبادئ.. أصاب، وإن قاده الجهل وحكمته المساوئ.. أعاب، في إشارة بارعة من أمير الفكر العربي، أننا للتحول قابلون، لأنه سنّة وديدن الأيام، لأن الجمود ليس من طبع الوجود، وحتى الماء، قارئي العزيز، يقول الشافعي - رحمه الله فيه:

إني رأيت وقوف الماء يُفسدُهُ

إن سَاحَ طاب وإن لم يجرِ لم يَطِبِ

والحقيقة الواضحة الجلية اليوم أن ما أصاب أطراف أمتنا من خمول وجمود هو السبب المباشر والأساس للحالة والمنزلة التي نحن عليها اليوم بين الأمم، التي نفضت عن كواهلها أردية الكسل، وارتدت الفضفاض من دُثر الحركة والعمل، مؤكدا في ذات الوقت: أننا لم ولن نقبل تحولا يحيد بنا عن ديننا، ويأخذنا بعيدا عن قيمنا وأخلاقنا التي غرسها فينا الدين العظيم، فصارت دستورنا ومنهجنا القويم.

ومضى الأمير يشخّص الحالة: إنها حالة التحوّل..! وما أدراك ما التحوّل..!؟ هي حالة مرحلية وفترة زمنية لنقلة حضارية.. يصنعها الإنسان أو يفرضها الزمان.. وفي نظري أنها ترتكز على ثلاثة عناصر: «ثقافة.. واقتصاد.. وإدارة»، ولا أظن الأمير أخطأ ترتيب العناصر الثلاثة حسب أولويتها، فقد أتى بالثقافة في المقام الأول، لأنها روح وفكر وسلوك، ولأنها دين وتعلّم وإعلام.

ولقد اعتاد الفيصل في كل أطروحاته وخطاباته ولقاءاته أن يضع الدين في مقدمة الأشياء، لأنه بوضوح الجامع لكل الأشياء، والمانع من الضار من الأشياء، وهو الضياء والنور الذي خرج من هذه الأرض ونزل على النبي الرسول، عليه الصلاة والسلام، لأهل هذه الأرض ولكل الأنام، فليس أحد أولى منّا بالتمسك به والحفاظ عليه. تماما كما نزل على محمد بن عبدالله، وكما تركه لنا قرآنا وسنة دون تحريف أو تخريف، ودون جماعات أو أحزاب، لم نجن منها اليوم سوى الصراعات والفتن والخراب، وفي استشهاد منطقي بحالنا حين الهدى ووضعنا وقت الضلال، للتأكيد على أن صنّاع الفتن والذين قال عنهم الأمير «ولكن الذين هربوا بدينهم وأضغانهم.. خانوا كرم من آواهم.. فبذروا جرثومة التكفير والتمرد.. في عقول الجاهلين.. فحولوا الدعوة إلى الله.. إلى جهاد عباد الله.. فتنكّر الغرّ الجاهل لأهله.. وخان وطنه ودولته وأرضه.. واحتل جهيمان الحرم.. وكذب وادّعى وظَلَم، وهُزِم الرجل ومضى، ولكن فكره بقي وطغى، وكادت أن تكون كبوة.. لولا لطف الله.

وكأن الأمير أراد بذلك اللطف الذي تداركنا به ربنا جلّ في عُلاه..

«وقفة ثبات من المتفقهين في كتاب الله.. ورفض التطرف من عاقلِ عباد الله.. ومرّت بنا فترة من الأمن والاستقرار.. وطفرتان من ثروة المال والإعمار.. استثمرنا بعضها وأهدرنا بعضها»، وهذا هو خالد الفيصل رغم إيجازه في التعبير، إلا أنه يذهب مباشرة للهدف لصناعة الأثر والتأثير.

يقول الأمير وقد أوجز اللطف في وقفة ثبات من المتفهمين المتفقهين المتدبرين والمؤمنين بأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء، والعارفين أنه ليس هناك حديث صحيح واحد يخالف آية من كتاب الله، أوليس النبي، عليه الصلاة والسلام، رسول لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى..

أولم يقل له الله تبارك وتعالى في قرآنه المنزل عليه (لست عليهم بمسيطر)، أولم يقل عزّ من قائل (لكم دينكم ولي دين)، إذا فمن ذا الذي جاء بأمر جهاد عباد الله المؤمنين الموحدين؟! وكيف يمكن لأتباع دين واحد، وكتاب واحد ونبي واحد أن يصرخ القاتل: الله أكبر ويقول المقتول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

هنا وأمام المنتدى الاقتصادي العالمي في جدة، وبحضور العشرات من كل القارات من قادة الفكر والرأي والمال قال الأمير بجلاء.. ردا على هذا التساؤل الذي حيّر حتى العقلاء.. «علينا أن نستفيد من الدروس، فالوضع اليوم خطير.. والهجمة شرسة.. والشرّ مستطير.. والجرثومة نجسة.. لها عقول خارجية.. وأذناب داخلية.. تديرها دول ومؤسسات وخبرات.. وينفّذها مرتزقة بأتاوات.. هدفها الاهتزاز والابتزاز.. واختلال التوازن.. بتشكيك المواطن.. واتهام المسؤول بالتهاون.. سخّروا الإعلام لاستثارة الأنام.. وزخرفوا الكلام ولفقوا الاتهام.

وقد ينبري سائل فيقول مُحبَطا أو مُحْبِطا: إذا وما العمل وقد واصلوا المثابرة، وأحكموا المؤامرة؟

والجواب، قارئي العزيز، سأورده نصّا كما جاء في الطرح الرائد، دون نقصان أو كلام زائد.. يقول خالد الفيصل: «لقد سبق أن صنعنا التحول.. وقدناه.. وأحسنا القيادة فأحكمناه.. فكان عبدالعزيز بن عبدالرحمن.. رجل الزمان والمكان.. جمع الأفراد والقبائل والإمارات.. ثم سلطنة نجد ومملكة الحجاز.. فأسس دولة.. لها صولة وجولة.. لكنها كانت أكبر من إدراك بعض أهل زمانه.. فكانت الفتنة.. أسبابها جهل طغمة.. غايتها اقتسام سلطة.. وبرز القائد في الشدائد.. فألجم التمرد بالعنان.. وحسم الأمر بالقوة والحكمة والحنان.. فنجحت الوحدة.. واستتب الأمر وفشلت الردة..»

وكأني بالأمير يربط بين حزم المؤسس، يرحمه الله، وبين عزم الملك سلمان بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن.. ذلك حين فسّر الجهلة خطأ صبر المملكة وطولة بالها، على أرباب الفتنة وذيولهم الخائنين.. الذين كان على مليكنا خادم الحرمين الشريفين، يحفظه الله ويرعاه، أن يواجههم بما يستحقون، وأن يذيقهم من الكأس التي يملؤون، ليعرفوا أن المملكة العربية السعودية، بفضل الله، هي معقل الدين، وأن كل رجالها هم حُماة العرين.

ولكن الأمير لم ينس في الختام أن يؤكد: «إننا اليوم أمام تحول اجتماعي سريع.. وانقسام فكري وثقافي مريع.. ومع أن الغالبية تتمسك بالمبادئ الإسلامية القائمة على منهج الاعتدال والوسطية.. فهذا تكفيري وهذا انحلالي.. وكلاهما قاتلان..»

وفي الختام نبّه الفيصل: بـ»إن الوقت أسرع مما كان والويل لمن لا يفهم الزمان ويحمي المكان.. فلنفكر في الأمر بروية.. ولتكن نظرتنا واقعية.. التحول بدأ.. والوضع الجديد نشأ.. ولا بد من استكمال التنمية.. لنحقق الأمنية.. فلنتمسك بالإسلام عقيدة وحصانة.. وننفتح على العالم بثقة وأمان».

وكم كان بودي - قارئي الحصيف - أن أضيف نصيحة أختم بها المقال، فلم أجد أفضل من ختامه مقالا: «ولا نخشى الاستفادة من مكتسبات العصر.. مع الثبات على مبادئنا بكل فخر.. فليس في طلب العلم والخبرة ضير.. ولا بأس من أخذ المفيد من تجارب الغير.. نأخذ منها ما نريد على هوانا.. ولكن.. لا نسلّم لحانا لمن يريد لها الهوانا». احفظوا الله يحفظكم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولنعلم أن الله ما أعزنا إلا بالإسلام.

وأظنني قد أعود إن شاء الله في مقالات قادمة لأتحدث عن العنصرين الباقيين.. الاقتصاد.. والإدارة.

حفظ الله بلادنا بحفظه، وأيد ولاة أمرنا ونصر جندنا وهدانا لما يحب ويرضى.