صالح عبدالله كامل

بلادنا الحبيبة إلى مصاف الاقتصاد المعرفي

السوق
السوق

الأحد - 28 فبراير 2016

Sun - 28 Feb 2016

ليس صحيحا ذلك المثل الشعبي «إذا فلّس التاجر، رجع لدفاتره القديمة»، فبعض الدفاتر والأوراق القديمة حين تتوافق مع واقع نعيشه، تصبح أرصدة قادرة على فتح حسابات جديدة. غدا، وبحول الله، وتحت رعاية مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة، يُفتتح منتدى جدة الاقتصادي في نسخته الخامسة عشرة، على مدار ثلاثة أيام، بحول الله، بعدما خرج من عباءة الخطابة إلى طرح فرص محلية وعالمية، وقد أمسى، بفضل الله، يمثّل اليوم ثاني أهم المنتديات العالمية، بعد منتدى «دافوس» الشهير، ويشارك فيه أكثر من ثمانين متحدثا، بينهم وزراء وخبراء عالميون، ليطرحوا فيه رؤيتهم ويساهموا فيه بخبرتهم، وذلك عبر ورش «الطاولة المستديرة» التي تجمع مسؤولين حكوميين ومنفذي المشاريع في القطاع الخاص. وتقام بالتوازي مع الجلسات العلنية للمنتدى، وتحت عنوان «شركات القطاع الخاص والعام شراكة فاعلة لمستقبل أفضل»، من أجل تقديم أفضل الحلول لتعزيز قدرة الاقتصاد السعودي، ليكون أكثر تنوعا في مواجهة التحديات المقبلة، بالتواكب مع برنامج التحول الوطني الذي يتبناه المجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة ولي ولي العهد، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، وفقه الله. لجأت إلى ذلك المثل القديم في مقدمتي، حين تذكرت محاضرة لي، جاءت ضمن فعاليات «المؤتمر السنوي لاتحاد المصارف العربية» والذي عُقد في مدينة إسطنبول التركية في الفترة من 12 إلى 14 /5/ 1993 من القرن الماضي. وجاء في مقدمتها: بالتجربة ثبت أن القطاع العام لن يستطيع القيام بأعباء التنمية، نظرا لأدائه البيروقراطي، وما ينتج عن ذلك من هدر للموارد المتاحة، وضربت بتركيا التي عُقد بها المؤتمر مثلا، مستعينا ببعض الدراسات المتخصصة، والتي جاء فيها: - بلغت خسائر القطاع العام في تركيا ألف مليار ليرة في عام 1983وحده. - وفي مصر في عام 1987 حققت شركات القطاع العام خسائر بلغت خمسمائة مليون جنيه. - وفي المغرب طلبت ثلاثمائة شركة قطاع عام مساعدات سنوية من الدولة بلغت 4 مليارات ونصف المليار درهم لتغطية العجز في ميزانيتها. كما أظهرت دراسة أجريت على المؤسسات العامة بغرب أفريقيا أن 62% من هذه المؤسسات تكبدت خسائر صافية، وكان الوضع مشابها في دول أخرى عديدة في الأرجنتين، والبرازيل، والمكسيك وسريلانكا والفلبين. ونتيجة لهذا الأداء الضعيف لكثير من مؤسسات القطاع العام، تبنّى كثير من الدول والدراسات توجها يهدف إلى إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص، وتقليص دور القطاع العام من أجل تصحيح المسار الاقتصادي لهذه الدول. ومظاهر زيادة دور القطاع الخاص وتقليص دور القطاع العام في الدولة، تبدّت في محاولات عدة وسياسات تحت شعار إصلاح التشريعات، وإزالة العوائق البيروقراطية، وصولا إلى قيام أنشطة خاصة في مجالات كانت حكرا للقطاع العام، إلى مشاركة الحكومة في بعض المشروعات حتى تصل إلى مرحلة بيع المؤسسات العامة إلى القطاع الخاص. وتساءلت خلال محاضرتي تلك عن مفهوم التخصيص وأهداف التخصيص، فقد أصبح المفهوم السائد للتخصيص هو: (قيام الدولة بتحويل ملكية المؤسسات العامة جزئيا أو كليا إلى القطاع الخاص)، وذلك ضمن إطار شامل وهو تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وحين تتم عملية التخصيص وفقا لاستراتيجية محددة فإنه لا بد من الإجابة على السؤال التالي: ما هو الهدف من هذه العملية؟ هل هو فقط من أجل نقل ملكية إدارة المؤسسات العامة إلى الأفراد، أم من أجل الارتقاء بتلك المؤسسات وتحسين أدائها الاقتصادي. إن مجرد نقل الملكية لا يمثل في حد ذاته هدفا ذا قيمة اقتصادية، ولا حتى ذا قيمة اجتماعية، إذا لم يستهدف بنقل ملكية المؤسسات زيادة إنتاجيتها وتعظيم ربحيتها. وعليه يمكن القول إن الهدف الأساسي من التخصيص هو تطوير المؤسسات العامة وتحسين أدائها وزيادة إنتاجيتها ورفع معدل الربح، الأمر الذي يساعد في: 1. تخفيف العبء عن أجهزة الإدارة الحكومية بما يتيح لها أداء وظائفها الأساسية. 2. تخفيف العبء عن ميزانية الدولة بإيجاد مصادر تمويل بديلة تتحمل أعباء استمرارية عملية التنمية ومتطلبات التحديث والتطوير. 3. زيادة حجم الاستثمارات وإيجاد فرص عمل جديدة. 4. تحسين مستوى أداء المنتجات المحولة بما يقلل التكلفة ويزيد الإنتاجية ويرفع معدل الربحية. 5. إتاحة الفرصة للحكومات لإعادة استثمار حصيلة عملية التخصيص في مشروعات لا يرتادها عادة القطاع الخاص. 6. التمكين من ربط الأجور بمعايير الإنتاجية والربحية. 7. إحلال إشراف المساهمين ذوي المصلحة الذاتية محل إشراف الموظفين البيروقراطيين. فإذا كان هذا هو الهدف من التخصيص، فلا بد من وضع سياسات وأساليب تحقق هذا الغرض وأن ينصب الاهتمام على إمكانية خلق وفورات اقتصادية واجتماعية من عملية التخصيص، وألّا نكتفي فقط بالاهتمام بنقل الملكية. كان هذا ملخصا لما جاء في الفصل الأول للمحاضرة التي كانت من ثلاثة فصول، ولكن لضيق المساحة سأختم بما جاء في خاتمة تلك المحاضرة تحت عنوان: «مشكلات وصعوبات تواجه عملية التخصيص»: إن عملية التخصيص في معناها الواسع لن تتم بسهولة ويسر لمجرد تصميم الإرادة السياسية بالمضي فيها، وإنما هناك الكثير من العوائق والصعوبات، يجب وضعها في الحسبان، وإعداد الخطط والإجراءات اللازمة لتفاديها أو التقليل من آثارها، ويأتي في مقدمة هذه الأمور العاملان البشري والاجتماعي، حيث إنه، ونسبة للتكوين العاطفي لمجتمعاتنا، فمن الصعوبة أن يتقبل الناس فكرة التخلص من العمالة الزائدة، أو العمالة غير المؤهلة، أو العمالة غير المنتجة، فمجتمعاتنا ورثت مفهوم أن الدولة عليها إعالة الأفراد بإيجاد وظائف لهم بغض النظر عن حاجتها أو عدم حاجتها لهم. لذلك يصعب إقناع قطاع عريض من الناس بالاستغناء عن تلك العمالة، باعتبار ذلك من مقتضيات زيادة الإنتاج والربحية وتنمية الأعمال. ومن المقترحات المفيدة في هذا الصدد، تخصيص نسبة من موارد التخصيص للإنفاق على العمالة الزائدة لفترة موقتة ولتدريبهم وزيادة كفاءتهم ومساعدتهم في إيجاد وظائف ملائمة. وحتى تكتمل عناصر نجاح عملية الخصخصة لا بد من توافر ثلاثة عوامل مهمة: أولها: الارتقاء بمستوى أداء العاملين فنيا بالتأهيل ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وخلقيا بتعبئة الأفراد من أجل العطاء الذي له مقابل روحي ومادي. ثانيها: لا بد من بث روح الاقتصاد الحر كاملة في مختلف نواحي الحياة، بحيث لا تؤثر قرارات الخصخصة أو الإجراءات البيروقراطية في تعطيل المشروعات أو تقييد حريتها. ثالثها: لا بد من تطوير الإطار القانوني بالكامل ليتوافق مع تحرير الاقتصاد وزيادة دور القطاع الخاص. نعم ألقيت هذه المحاضرة قبل ما يعادل ربع قرن.. وكم أحمد الله اليوم أن شملت نظرة خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله ويرعاه - كل هذه الأمور وأكثر، وهو ينطلق، بعون الله، ومنذ اليوم الأول، في تحديث الوطن وتحصينه في وجه عوامل الزمن، حين أصدر أمره الكريم بإنشاء المجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والتنمية، وأوكل قيادته لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، وفقه الله، هذا المجلس الذي أوجد الترابط المطلوب والمأمول بين الوزارات والجهات المختصة بالشأن الاقتصادي والمالي والاجتماعي، والتعليمي.. الأمر الذي يؤكد انتقال بلادنا الحبيبة وعبر هذا المجلس إلى مصاف الاقتصاد المعرفي، واعتمادا على تنويع مصادر الدخل، وإشراك كل الطاقات المؤمنة بقيمة هذه الأرض المقدسة والتي تتوق شوقا وولاء لخدمة مليكها ووطنها وإرضاء لله الذي أراد لهذه الأرض أن تكون القبلة والمنار. saleh@makkahnp.com