أحياء «إرم ذات العماد» الشعبية!
الخميس - 25 فبراير 2016
Thu - 25 Feb 2016
يقول ليجان السكمري: حين استغشيت ثيابي تحت أثلة جوار شاطئ (الشُّعيبة)، سمعت صخبا كثيرا وظننته حلما، ففتحت إحدى عينيّ اتقاء شمس الظهيرة الحامية، ونظرت إلى الشاطئ، فإذا بصياد ينزل من قاربه برفقة امرأة وشابين، يحملون بكل قوتهم سمكة ضخمة صفراء، يسحب ذيلها في الأرض، ولها قوائم كقوائم السحلية، جحظت عيناي، واستغرقني النظر إلى المشهد الغريب، فبصرت بالسمكة تحرك فكيها من خلف المرأة، فأدركت أنها لا تزال حية، وربما تقطع عنق زوجة الصياد، فلم أشعر بنفسي إلا واقفا عندهم أصيح بهم أن ينتبهوا لحركة فكيها، فألقوا بها على التراب حتى سمعت «جغجغة بطنها»، فالتقطوا أنفاسهم، ونظر إليّ الرجل متسائلا: من أنت؟ وماذا تريد؟
قلت ـ يا رعاك الله ـ أنا ليجان صاحب مكتبة في «وادي النمل» بالطائف، أطوف الأرض لأجمع العلوم والمعارف، ومن أنتم؟ فقال: أنا جندي بحري متقاعد، وهذه زوجتي، معلمة متقاعدة بعدما فقدت ساقها كاملة في حادث على طريق الليث، جار زماننا فاشتغلنا بالصيد والبحر، نسكن في حي «غُليل» الشهير، وهذان الفاغران ابناي، لم تقبل بهما جامعة ولا كلية، وخشية أن يتخطفهما الإرهابيون؛ أخذتهما معي إلى البحر (البنقالي). فقاطعت الرجل صرخة من بطن السمكة، اشتدت بعدها حركة الفكين، فتراجعنا بعيدا نرقب المشهد، فإذا الحركة تزداد، وتزداد، حتى خرجت من فمها يد كيد الطفل إلا أنها بثلاثة أصابع، شعرت بقشعريرة في جسدي بقوة 244 بلدية، وإذا برأس خضراء كأنها الحنظلة لها عين واحدة، أدركت أن كائنا في بطن السمكة سيخرج من فمها، وفي لمح البصر خرج الكائن العجيب، له يد واحدة تتدلى من منتصف صدره وقدم مطاطية واحدة، وسطه مربع، انطلق يقفز إلى الصحراء، فجرينا خلفه، ولم أجد حجرا في الرمل «أفدغه به» إلا جوالي، فسقط على وجهه، فأمسكه ابنا الصياد، كان جسده شديد الحرارة يفور، انقلبت عينه الزجاجية بيضاء فأدركت موته، ثم أخرج الصياد سكينا بقر بها بطنه المربعة، فاستخرج من داخلها صندوقا مذهبا، يلتمع في الشمس.
أخذ الصياد الصندوق وهرعنا إلى الظل نتصبب حيرة وتعجبا وعرقا، حاولنا فتحه فلم نستطع، فقالت زوجة الصياد: ربما يكون كنزا فرعونيا مغلقا بتعويذة، فقلت للصياد أعطنيه فإنه لي، قال وكيف يكون لك وأنا صائد السمكة الكبيرة، قلت لقد هرب هذا الكائن ولولا رجمته بجوالي لما استطعتم إمساكه، قال لك نصيب فيه، لكني لن أعطيكه كله. قلت: سأشتري نصيبك، فساومته عليه حتى دفعت له سبعين مئة، أخذت الصندوق ومضيت لكني لم أرَ الكائن العجيب مكانه، ربما دفنه ابنا الصياد في غمرة انشغالنا بالصندوق، الذي وضعته من شدة حرصي على لوحة عدادات السيارة أمامي، وعدت إلى بيتي، جلست أقلب الصندوق أياما، حتى ألهمني الله أن أتفحصه بعدسة، فبصرت بفتحة صغيرة جدا، أدخلت فيها إبرة رفيعة فانفتح، وجدت قماش جوخ أحمر، ملفوفا بشكل مثلث كأنه «السنبوسة»، أخذت أفك تلافيفه بحذر حتى نهايته، فلم يكن الجوخ إلا واقيا لقطعة جلد رطبة في داخله، تمتمت بالمعوذات وفتحتها بحذر، فالتمع الحبر الذهبي على الجلد، وحين تأملت الخط عرفته تماما، فهو خط «قوم عاد الأولى» وكانت رسالة أحد مواطني «إرم ذات العماد»، يقول فيها:
«من كتمان بن بلذعاد، إلى شاكول، يا صاحب العمادة، متعكم الله بالصحة والسعادة، فنحن سكان الأحياء الشعبية خاصة حي (سبكار) الإرمي القديم، نرفع إلى مقامكم التبجيلات والتشكرات، على كل المشاريع والتطورات، التي جعلت الحي مهوى أفئدة الصفوة، وملاذ الباحثين عن رفاه الغفوة، وإننا لنشكركم من باب حمد النعمة، خشية النقمة، إذ يقال إنه سيأتي زمان على الناس ـ حاشا أن يكون زمانكم ـ تظهر فيه الرزية، وتحتقر الأحياء الشعبية، فحسب الخرافة، ونعوذ بالله سيصبح (الحي الشعبي) بسوء التدبير والحصافة، عنوانا «للسخافة»، وحاضنا للقرافة، والكل يكرهه ويخافه، حتى عمال النظافة، فمن الممنوع أن تفرغ حاوياته قبل أسبوع، من «الربوع إلى الربوع»، تطفح بياراته، وتتهالك مساراته، ويصاب بالحفر والمطبات، تملؤها مخاطر كامنة، ومياه آسنة، تزكم الأنوف، وتصب على الأجساد الحتوف، يتكاثر عليها البعوض، ينقش جلود ساكنيه بالرضوض، حتى تجتاحهم حمى يقال لها (الضبك) أو (المظاريا)، أما بلدياتهم فتتشاغل بأحياء الأثرياء، ومسارات الأغنياء، تنظف وترش وتعبّد، وتشجر الأرض وتورّد ...». لم استطع قراءة ما تبقى فقد بهت حبر الحروف، فعزفت عنه لأنه (معروف)!
قمت إلى شباك مكتبتي حين سمعت الصخب، نظرت إلى الشارع، سيارات الشرطة تطارد الكائن الذي استخرجت من بطنه الصندوق، وهو يجري ويحك جلده بضراوة، أدركت ساعتئذ أن البعوض الذي شبع من جلودنا إلى درجة الملل، يحتفل بوليمة جلد جديد!
[email protected]
قلت ـ يا رعاك الله ـ أنا ليجان صاحب مكتبة في «وادي النمل» بالطائف، أطوف الأرض لأجمع العلوم والمعارف، ومن أنتم؟ فقال: أنا جندي بحري متقاعد، وهذه زوجتي، معلمة متقاعدة بعدما فقدت ساقها كاملة في حادث على طريق الليث، جار زماننا فاشتغلنا بالصيد والبحر، نسكن في حي «غُليل» الشهير، وهذان الفاغران ابناي، لم تقبل بهما جامعة ولا كلية، وخشية أن يتخطفهما الإرهابيون؛ أخذتهما معي إلى البحر (البنقالي). فقاطعت الرجل صرخة من بطن السمكة، اشتدت بعدها حركة الفكين، فتراجعنا بعيدا نرقب المشهد، فإذا الحركة تزداد، وتزداد، حتى خرجت من فمها يد كيد الطفل إلا أنها بثلاثة أصابع، شعرت بقشعريرة في جسدي بقوة 244 بلدية، وإذا برأس خضراء كأنها الحنظلة لها عين واحدة، أدركت أن كائنا في بطن السمكة سيخرج من فمها، وفي لمح البصر خرج الكائن العجيب، له يد واحدة تتدلى من منتصف صدره وقدم مطاطية واحدة، وسطه مربع، انطلق يقفز إلى الصحراء، فجرينا خلفه، ولم أجد حجرا في الرمل «أفدغه به» إلا جوالي، فسقط على وجهه، فأمسكه ابنا الصياد، كان جسده شديد الحرارة يفور، انقلبت عينه الزجاجية بيضاء فأدركت موته، ثم أخرج الصياد سكينا بقر بها بطنه المربعة، فاستخرج من داخلها صندوقا مذهبا، يلتمع في الشمس.
أخذ الصياد الصندوق وهرعنا إلى الظل نتصبب حيرة وتعجبا وعرقا، حاولنا فتحه فلم نستطع، فقالت زوجة الصياد: ربما يكون كنزا فرعونيا مغلقا بتعويذة، فقلت للصياد أعطنيه فإنه لي، قال وكيف يكون لك وأنا صائد السمكة الكبيرة، قلت لقد هرب هذا الكائن ولولا رجمته بجوالي لما استطعتم إمساكه، قال لك نصيب فيه، لكني لن أعطيكه كله. قلت: سأشتري نصيبك، فساومته عليه حتى دفعت له سبعين مئة، أخذت الصندوق ومضيت لكني لم أرَ الكائن العجيب مكانه، ربما دفنه ابنا الصياد في غمرة انشغالنا بالصندوق، الذي وضعته من شدة حرصي على لوحة عدادات السيارة أمامي، وعدت إلى بيتي، جلست أقلب الصندوق أياما، حتى ألهمني الله أن أتفحصه بعدسة، فبصرت بفتحة صغيرة جدا، أدخلت فيها إبرة رفيعة فانفتح، وجدت قماش جوخ أحمر، ملفوفا بشكل مثلث كأنه «السنبوسة»، أخذت أفك تلافيفه بحذر حتى نهايته، فلم يكن الجوخ إلا واقيا لقطعة جلد رطبة في داخله، تمتمت بالمعوذات وفتحتها بحذر، فالتمع الحبر الذهبي على الجلد، وحين تأملت الخط عرفته تماما، فهو خط «قوم عاد الأولى» وكانت رسالة أحد مواطني «إرم ذات العماد»، يقول فيها:
«من كتمان بن بلذعاد، إلى شاكول، يا صاحب العمادة، متعكم الله بالصحة والسعادة، فنحن سكان الأحياء الشعبية خاصة حي (سبكار) الإرمي القديم، نرفع إلى مقامكم التبجيلات والتشكرات، على كل المشاريع والتطورات، التي جعلت الحي مهوى أفئدة الصفوة، وملاذ الباحثين عن رفاه الغفوة، وإننا لنشكركم من باب حمد النعمة، خشية النقمة، إذ يقال إنه سيأتي زمان على الناس ـ حاشا أن يكون زمانكم ـ تظهر فيه الرزية، وتحتقر الأحياء الشعبية، فحسب الخرافة، ونعوذ بالله سيصبح (الحي الشعبي) بسوء التدبير والحصافة، عنوانا «للسخافة»، وحاضنا للقرافة، والكل يكرهه ويخافه، حتى عمال النظافة، فمن الممنوع أن تفرغ حاوياته قبل أسبوع، من «الربوع إلى الربوع»، تطفح بياراته، وتتهالك مساراته، ويصاب بالحفر والمطبات، تملؤها مخاطر كامنة، ومياه آسنة، تزكم الأنوف، وتصب على الأجساد الحتوف، يتكاثر عليها البعوض، ينقش جلود ساكنيه بالرضوض، حتى تجتاحهم حمى يقال لها (الضبك) أو (المظاريا)، أما بلدياتهم فتتشاغل بأحياء الأثرياء، ومسارات الأغنياء، تنظف وترش وتعبّد، وتشجر الأرض وتورّد ...». لم استطع قراءة ما تبقى فقد بهت حبر الحروف، فعزفت عنه لأنه (معروف)!
قمت إلى شباك مكتبتي حين سمعت الصخب، نظرت إلى الشارع، سيارات الشرطة تطارد الكائن الذي استخرجت من بطنه الصندوق، وهو يجري ويحك جلده بضراوة، أدركت ساعتئذ أن البعوض الذي شبع من جلودنا إلى درجة الملل، يحتفل بوليمة جلد جديد!
[email protected]