أحمد الهلالي

«قياس» ملهِم يستحق التأمل!

الجمعة - 12 فبراير 2016

Fri - 12 Feb 2016

قبل شهر تقريبا انتقلت من مرحلة السماع عن المركز الوطني للقياس والتقويم «قياس» إلى مرحلة التجربة، حين شاركت مع زملائي في كلية الآداب وعميدها الدكتور بريكان الشلوي في الإشراف والمراقبة على اختبار الكفايات، وليس من فراغ وقلة مشاغل، بل توقا إلى الوقوف بنفسي وتجربة الأمر، وقد كلفتني التجربة الحرمان من لقاء الأديب محمد ربيع الغامدي في أمسيته في أدبي الطائف وحديثه عن سيرة أجدادي وتغريبتهم، فلم أحضر إلا متأخرا.

قياس تجربة ثرية في دقة النظام، وسلاسة الإجراءات رغم كثرة التفاصيل، وهو في نظري منبع إلهام لمن شاء بناء أنظمة دقيقة، ورغم الإرهاق الذي وجدته كمراقب في إحدى القاعات، لكن تأمل التجربة كان ممتعا، فقد حضرنا بعد العصر مباشرة واستلمنا الكشوفات والملصقات ووضعناها مع الأقلام وأكياس حفظ المقتنيات على مقاعد المختبرين، الذين حضروا بعد المغرب مباشرة بأعداد كبيرة، فدخلوا بكل سلاسة وهدوء، ومضى الاختبار في صمت وهدوء عجيب، حتى في طلب المختبر للخروج الاضطراري السريع ثم العودة، وتقيد المختبرين بتعليمات مشرف القاعة ومتابعتها بسرعة ودقة، ثم حرص المراقبين ودقتهم في مراجعة بيانات المختبرين حتى تتقلص مساحة الخطأ والنقص إلى درجة الندرة.

ما دعاني إلى الكتابة عن هذه التجربة ليس امتداح قياس وحسب، لكن تتردد كلمات مؤذية في بعض مجالسنا سواء العامة أو النخبوية، فحواها أننا مجتمع يتفلت من عرى الأنظمة، ويستمتع بخرقها ومخالفتها، إلى درجة يأس البعض من التزامنا بالنظام والقوانين، ودأبنا المستمر في الالتفاف وقفز الأسوار، وهذه التجربة في «قياس» وقبلها تجربة «النظام المروري في مدينة الملك خالد العسكرية بحفر الباطن» والتزام الجميع بأنظمتها المحكمة، غير ما أسمعه من بعض الأصدقاء عن التزام شبابنا حين يسافرون إلى دول صارمة الأنظمة، كل هذا يدحض تلك المقولات السوداء، وينفي كل مبرر للجهات المسؤولة عن تمادي بعضها في تجاهل إعادة بناء أنظمتها بدقة، وفرض النظام على الجميع سواء مروريا أو وظيفيا أو دراسيا وغيرها حتى تتحرك الأنظمة في دوائر سلسلة متناغمة، فكل نظام جزئي سيكون بمثابة ترس صغير يتفاعل مع أنظمة أخرى تحرك الترس الأكبر «عجلة التنمية»، فتزدهر البلاد أكثر، ويتضاعف جذبها للمستثمر والسائح والزائر والحاج، فوق جاذبيتها التي أنعم الله علينا بها في المقدسات والأمن والكنوز الطبيعية والتاريخية شبه المهدرة.

كذلك تأخذني تجربة قياس إلى أمنية أن يتأملها القائمون على المؤسسات التعليمية سواء في التعليم العام أم الجامعي، ومحاولة تكييفها بما يتناسب واختبارات تلك المؤسسات مع كثرة موادها ومراحلها، والإفادة منها في بناء اختبارات الطلاب وتنقيتها من ظاهرة الغش، فالأنظمة المعمول بها حاليا عقيمة، تعتمد غالبا على شخصية مراقب الاختبار وأمانته وحذقه وحزمه، ولو فتح المجال لسرد أساليب الدارسين في محاولات الغش بين البدائية والمتطورة جدا لاحتاج الإنسان إلى خمسة أعوام ربما لقراءتها، فلا تستغرب أن تجد طالبا متعثرا يحوز درجات عالية في الاختبارات النهائية، أو تجد فصلا يحرز جل المختبرين فيه درجات عالية لم تستطع بقية فصول الصف تحقيقها بذلك المستوى المرتفع المتقارب، ولو فُحصت الاختبارات لتبين لإدارات المدارس والتعليم والجامعات أن سبب ذلك يكمن في شخصية المراقب غالبا، وعدم توفر الأدوات المساندة له.

كذلك فمن مصلحة الطالب أن يختبر في جو خال من التوتر، وهذا ما لمسته في قياس، فالهدوء السائد يحفز الذاكرة على استدعاء المعلومات، ويؤثر إيجابا في درجات الطلاب، بخلاف الاختبارات التقليدية التي يسودها التوتر، سواء توتر المراقبين حين ينعكس على المختبرين، أو توتر المختبرين من كثرة مرور المشرفين والإداريين على قاعة الاختبار، وكذلك صخب خروج زملائهم في نصف الوقت، واستعجالهم للخروج معهم إذ يعمدون إلى ملء الفراغات بإجابات مشوشة، لكن قياس يعتمد على تقنية بقاء المختبرين حتى نهاية الوقت وخروجهم جميعا.

قياس أيضا يربط المختبر بالوقت ربطا مباشرا، وإن رأى البعض أن تحديد الوقت وتقسيمه يؤثر على تركيز الطالب ويوتره، فإني أراه من أهم ميادين تطبيق تنظيراتنا عن قيمة (الوقت)؛ فنظر الطالب إلى الساعة وارتباطه بها يزرع في أعماقه أهمية الوقت واحترامه، فالطالب لا يجد وقتا يهدره في الالتفات أو التشاغل بأي أمر خارج قاعة الاختبار، واسألوا المعلمين عن الطلاب المشغولين بالنظر إلى كل شيء في القاعة، والذين يسرحون بعيدا أو ينشغلون بمراقبة المراقب، لربما وجد أحدهم فرصة لالتقاط إجابة من زميله المجاور، واسألوهم أيضا عن نوم بعض الطلاب أثناء الاختبار أحيانا.

ختاما آمل أن نتوقف أمام النماذج المشرقة، وأن نحاول سحبها على شؤون حياتنا الأخرى حتى نحقق ما يطمح إليه وطننا الغالي، ويستحقه إنسان هذه الأرض الطاهرة.

[email protected]