صالح زياد

ألف جلدة..!

الأربعاء - 10 فبراير 2016

Wed - 10 Feb 2016

كان ستيفن ساكر، مقدم برنامج «هارد توك» في قناة بي بي سي، يغمض عينيه رافعا حاجبيه ومنكسا رأسه، وهو يسأل المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء منصور التركي في لقائه معه الأسبوع الماضي عن الحكم على أحد المحكومين بألف جلدة. وكان اللواء التركي واضحا وهادئا وهو يواجه دلالة الاستفظاع التي حملها السؤال في موضوعه ونغمته وملامحه التعبيرية. وهي استراتيجية شفافية يدلل عليها اللواء، لم يعد منها بد، فالنتائج المترتبة على تحاشي المواجهة الإعلامية، لا يلزم عنها تحاشي الأذى والإساءة للمملكة كما قد يبدو، بل العكس تماما؛ وذلك لأن الإعتام أو الغموض يتيح مناخا لمضاعفة التقول والافتراء والتشويه، ولمضاعفة عزلة الذات وتوحيشها. ولو لم يكن من فائدة الانفتاح على العالم وانكشاف الذات أمامه سوى ما يتيحه الانفتاح للذات من استبصار أكثر دقة لذاتها، وأدعى إلى استشراف مستقبلها في تجنب الصدام مع العالم، لكان في ذلك غاية قمينة بالتثمين وجديرة بالثقة. وبالطبع فليست وزارة الداخلية بوصفها سلطة تنفيذية موضوع السؤال عن نوعية الحكم بالجلد ولا كميته؛ فذلك من اختصاص السلطتين التشريعية والقضائية، وهما من تتحملان مسؤوليته. لكن الذي لا يعلمه ـ ربما- ستيفن ساكر أنه لم يبتدر السؤال عن ذلك؛ لأنه مطروح علنا في داخل المملكة منذ سنوات. وهناك العديد من المقالات والتحقيقات والأحاديث المنشورة في أبرز الصحف السعودية، لفقهاء وقضاة ومحامين وأكاديميين ومثقفين وناشطين، تعترض صراحة عل أحكام الجلد التعزيرية. وهذا الاعتراض ـ حتى وإن لم يلق استجابة إلى الآن- يدحض الصورة التي حظيت بتأكيد غربي مستمر على حتمية تلك الأحكام في المملكة بوصفها أحكاما دينية، وعلى وحشيتها، وإسباغ صفات كهنوتية على علماء الدين والقضاة لدينا. ولا يقف ذلك الاعتراض على أحكام الجلد التعزيرية خارج المنطق الفقهي لأحكام الشريعة الإسلامية، بل يعترض عليها من داخله مستدلا بالحديث الشريف الذي رواه الجماعة إلا النسائي «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله»، وبذهاب عديد علماء المذاهب إلى تقييدها بعشر جلدات أو فيما دون حدود الجلد الثلاثة المعروفة التي لا يزيد أعظمها عن مئة جلدة. ويتسع أصحاب الاعتراض بمنطقهم إلى استصحاب واقع العصر الحديث ومدنيته ووجود بدائل للجلد منها عقوبة السجن التي لم تكن معروفة على هذا النحو قديما، والمواجهة للغرب، وتوقيع دول العالم بما فيها المملكة على مواثيق حقوق الإنسان التي ترى في الجلد امتهانا للكرامة وتعذيبا. وإلى ذلك فهم حريصون على استبصار أغراض العقوبات وأهدافها؛ فليس القصد من الحكم بعقوبة التشفي من المحكوم عليه بها، والفقهاء يؤثمون من يتشفى بالحكم بالعقوبة؛ لأن التشفي يحيل العقوبة إلى عدوان. وكان صدور العديد من أنظمة العقوبات في المملكة (مثل أنظمة جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والتزوير وجرائم المعلوماتية...إلخ) من دون النص على الجلد فيها، مصدر قوة إضافيا للاعتراض على الجلد. أما إذا عرفنا أن بعض القضاة والفقهاء والمحامين هم معظم من تصدر عنهم الآراء التي تنتقد أحكام الجلد التعزيرية والمبالغة فيها، بقدر انتقادهم تفاوت العقوبات بين أحكام قضائية تجمعها قضايا متشابهة، فإن دلالة ذلك واضحة على أن المؤسسة التشريعية والقضائية لدينا ليست كتلة باتجاه رأي واحد، وأنها تنطوي على موقف مرن وقابل لتطوير أحكام القضاء وإجراءاته في مقابل موقف متشدد ما يزال يمنح القاضي سلطة غير مقيدة، ولهذا الموقف الغلبة إلى الآن. وأعتقد أن إرادة المستقبل لا بد أن تنتصر للتطور والتحديث، لكن هذا الانتصار ليس سهلا ولا سريعا؛ لأنه في حاجة إلى جهود ضخمة في أكثر من جهة. وويل لنا إن تأخرت مشروعية التطوير وضرورته في أذهاننا.

[email protected]