العزف اللطيف في فصل الخريف


فصل الخريف.. ما ألطفه، ما أعنفه! وإن شئت قل ما أجمله!


فصل الخريف.. ما ألطفه، ما أعنفه! وإن شئت قل ما أجمله!

الجمعة - 08 يناير 2016

Fri - 08 Jan 2016



فصل الخريف.. ما ألطفه، ما أعنفه! وإن شئت قل ما أجمله!

هو فصل يختلط برده بدفئه.. هدوؤه بعصفه.. إشراقته بعتمته. تذكرك طبيعته ببعض البشر، هل جربت أن تعاملت يوما مع شخص خريفيّ الطبع!

إذا لقيك أول اليوم قال سلاما، وإذا لقيك آخره قال آثاما؟

هكذا هو الخريف لا تتنبأ بطقس صباحه، ويفجؤك طقس مسائه. هو فصل يتوسط فصلي الدعة والقسوة: الربيع والشتاء فيأخذ من طبع هذا ومن طبع هذا.. يرقّ حتى تظنه أخا الربيع، ويقسو حتى تظنه أبا الشتاء.

يحلو فيبهج الزراع بثمره، حتى سمي الثمر (خريفا) وحصاده (خَرْفا)، ويحيل في بواكيره الأرض ألوانا بين أحمر وأصفر وبنفسجي، ويسكب على الحقول روائح البرتقال والليمون. ثم يجفو فيعتصر نضرة الطبيعة، وينزع عن الأشجار لباسها ويسلب الحدائق بهجتها.

يخيل إليك أحيانا أنه شهر مزاجيٌّ، سريع الانفعال، لا تتنبأ بغضبته، فهو ساكن رائق، لكنه حين يغضب فإنه يرسل سوط رياحه الباردة على الأشجار فيجلدها جلدا ينفض به ورقها، ويعرّي به أغصانها، ويهجّر الطيور من مساكنها فتغادرها أسرابا فارة من هجمته الباردة، تلتمس الدفء في سماوات أخرى.

وتارة يخيل إليك أنه رسام مبدع، يمر بفرشاته على الطبيعة فيستبدل خضرتها بألوان شتّى ظاهرها فيه الجمال لكن باطنها فيه الاعتلال.

وقد اعتدنا على الحضور الهادئ للخريف بين باقي فصول السنة، حيث لا يستبان تأثيره في تراث الإنسان العربي، كشهرة الشتاء والصيف ذوي الظهور القوي والتأثير الواضح في المناخ، أو الارتباط منذ القدم بالنشاط التجاري (رحلة الشتاء والصيف).

فلا يكاد يهتم أحد للخريف، ولا يحفل به، ولا يحظى بكثير مدح كالربيع أو تشكٍّ كالصيف، ولا تدور حوله الحكايات كالشتاء.

لكنه في بلدان أخرى كأوروبا مثلا يتجلّى بكامل ملامحه، جماله، عنفوانه، وألوانه. فهو فصل حي لا يخلو من الحركة والأصوات والألوان. أما الحياة فيه فباطن الأرض يعج بالحياة أكثر من ظاهرها، حيث يبادر فيه أصحاب الحقول والجنائن إلى دس البذور والبراعم في باطن حقولهم فتستكنُّ هناك طيلة الشتاء ثم تشق الأرض نامية في الصيف أو الربيع، وما الفضل في ذلك إلا للخريف الذي احتضنها حتى يأذن الله لها بالحياة.

وأما الأصوات ففي مطره الدائم الهطول وصوت رياحه العنيفة وهزيز الأشجار دائمة الخضرة ما يكسر صمت هذا الفصل وسكونه.

وأما ألوانه فشيء كالسحر.. ألوان حارة دافئة تراها في ألوان الأشجار المصفرة والمحمرّة، تختلط بألوان باردة في لون الغيوم الرمادية والأفق الضبابي، فيجتمع للناظر إحساس الدفء والبرد معا.

وبعيدا عن حلة الخريف الظاهرة، فإن المتأمل في طبيعة هذا الفصل يرى كثيرا من العبر، وما ذاك إلا لأولي الألباب.

فحين ترى تلك الأوراق التي نمت في الربيع واشتدت في الصيف، تزهو باخضرارها وجمالها ونضرتها وتميل مع الرياح حيث تميل، ثم يأتيها الخريف ليقول لها لا بقاء! حان وقت الرحيل والفناء!

ستودعين عرشك العلوي، ولونك الربيعي لتسقطي على الأرض ذابلة واهنة معتلة، تدوسك الأقدام دون اكتراث بسابق جمالك أو قديم مكانك، وسيخلفك غيرك فهذه سنة الله في خلقه لا خلود إلا له ولا قوة إلا به. فلو يعي ذلك أصحاب القوة والسلطة، وأن ربيع نفوذهم سيعقبه خريف، وأن الأيام يداولها الله بين الناس كما تتداول وتتناوب على الأرض الفصول الأربعة، لما طغى بعض الناس على بعض.

كما أن الخريف يعطي درسا في عدم الحكم على الأشياء بظواهرها، فبواطنها قد تكون عكس ما تراه وتظنه. فظاهر هذا الفصل أنه من أقسى الفصول وأقلها جاذبية ونفعا، لكنه فصل يحتوي في باطنه جيلا جديدا من الحياة يحتويها بدفء وروية حتى موعد ميلادها، ليهب فصلا آخر جمالا آثره به على نفسه.

إن لفصول السنة سرا لا يدركه سوى من يهتم لأمرها، ومن يحسب أيامها ويرقب طوالعها، ومن يؤخذ بجمالها وهباتها، فهي ثرة بالعطاء غنية بالجمال.

هي كتاب مفتوح لمن يعشق التأمل ويتعبد الله بالنظر في بديع خلقه، هي خلق يتناوب على الأرض منذ الأزل، لا تتغيب ولا تخطئ موعدها، تمر بنا جميلة وتغادرنا جميلة، وهي حين تهدأ أو تعصف أو تعطي أو تبخل، فإنما هي لحكمة موجدها ومقدرها وآمرها سبحانه.