الكرم.. أصل المحاسن كلها
السوق
السوق
الأحد - 07 فبراير 2016
Sun - 07 Feb 2016
قال خليفة رسول الله، عليه الصلاة والسلام، الصدّيق أبوبكر، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، وعنه، رضي الله عنه، «الجود حارس الأعراض».
وقال الإمام علي، كرّم الله وجهه، «الكرم أعطف من الرحم».
ويحكى أن إعرابيا نزل بقوم فقال لهم: أرى وجوها وضيئة وأخلاقا رضيّة، فإن تكن الأسماء على نحو ذلك فقد سعدت بكم أمكم، فقال أولهم: أنا عطية، وقال الثاني، أنا كرامة، وقال الآخر: أنا عبدالواسع، وقال الأخير: أنا أدعى فضيلة، فأنشأ الإعرابي يقول:
كرم وبذل واسع وعطية
إلى أين أذهب أنتم أعين الكرم
من كان بين فضيلة وكرامة
لا ريب يفقؤ أعين العدم
فكسوه وأحسنوا إليه وانصرف شاكرا غانما مسرورا بكرمهم وسعيدا.
والكرم اسم واقع على كل نوع من أنواع الفضل، ولفظ جامع لمعاني السماحة والبذل، والكرم صفة أصيلة في النفس الإنسانية، ومعناه الإعطاء، الإنفاق، وطيب النفس، وهو ضد اللؤم والنذالة، والبخل والشح، ومن أجمل الصفات العربية التي تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل.
وهو سلوك متأصل في الشخصية العربية وفي الفرد العربي، مستمد من جينه الموروث، بمعنى أن هناك استعدادا جينيا لدى الإنسان العربي لانتهاج سلوك كريم، وهو يشتد ويتزاوج مع أسلوب التربية في فترة الطفولة والمراهقة، ولا يقتصر التأثير الجيني على أسلوب تربية الوالدين، وإنما تتأثر شخصية الفرد بأفكار المجتمع المحيط به، فتتعمق فيه السجية وتزداد. والجينات هى الوحدة الأساسية للمعلومات الوراثية في كل الكائنات الحية، فهي تحمل المعلومات اللازمة لبناء الخلايا والحفاظ عليها، والقيام بكل الوظائف الحيوية، ومن ثم بناء أجسام الكائنات وإعطاؤها صفاتها المتميزة.
وبعيدا عن علم النفس والجينات، فقد اهتم الإنسان العربي بهذه الصفة الحميدة حتى غدا يضرب به المثل، وليس أقرب من المثل الحاتمي.
ذلك أن الكرم والجود من سمات القيادة والسيادة عند العرب، حتى قال شاعرهم:
كل السيادة في السخاء ولن ترى
ذا البخل يدعى في العشيرة سيدا
وقد قال حكيمهم يوما: زينة الغنيّ الكرم، وزينة الفقير القناعة، وزينة المرأة العفّة.
وقال آخر: إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأكرم الكرم حسن الخلق.
ومع هذا فالمثل الشعبي يؤكد حقيقة مهمة وعقلانية، «الجود من الموجود».
وأحمد الله أن الكرم ما زال واحدا من صفاتنا العربية، التي لم تندثر كبعض من صفات حميدة أخرى، طواها عالم ما يدعى بالتحضر، وصار البعض منا يرفض ممارستها، مدعيا أنها من مخلفات الماضي، وربما نسي هذا النفر أن الأخلاق هي الدعامة الحقيقية لأي تحضر ولكل حاضر، وأن الحفاظ عليها من أسباب الرقي والتقدم، ورسولنا، عليه الصلاة والسلام، يقول (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وربّه يمتدحه بقوله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم).
وفي عرف الأمة الوسط يبقى التوازن والاتزان شعارا يجب أن تبقى رايته مرفوعة دائما، وميزانا لا يجب أن ترجح فيه كفة على أخرى. وبالبلدي نقول: «الشيء إن زاد عن حده انقلب لضده»، مع أن أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام أولا، ثم سخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروع الكرم.
استقبلت في الأسبوع الماضي ضيفا عزيزا كريما، وخرجت بعد انتهاء الضيافة لأودعه إلى سيارته، ولفت نظري أن رقم لوحتها (1) فقلت مازحا وملاطفا: ما شاء الله، تبارك الله، سيارتك رقم (1)، وكنت والله يعلم أقصد الإمعان في تكريمه والمبالغة في الاحتفاء به، وكأنما الجين المتعلق بالكرم توهج عند صديقي، وفوجئت به في اليوم التالي قد أكمل الإجراءات النظامية وأهداني اللوحة رقم (1). ولأني لست خبيرا في أرقام اللوحات ورمزيتها، سألت أولادي فقالوا «يا بوي لوحة زي هادي تساوي على الأقل نصف مليون ريال»، فتذكرت قول شاعر، وأيقنت أن ضيفي الكريم يعرف هذا البيت:
ومن كان ذا جود وليس بمكثر
فليس بمحسوب من الكرماء
وبالفعل فإن ضيفي ممن أنعم الله عليهم بكرمه وفضله، ولكن قد يكون هناك من يجود بكل ما يملك وقد يكون قليلا، وفي هذا لا أرى جودا ولا كرما، وخاصة إذا جاد على من جاد الله عليه، وكان يكفيه من الهدايا رمزها تعبيرا عن المودة، وتأكيدا للمحبة.
وحقيقة فإن السخي دائما مسرور ببذله، متبرع بعطاياه لا يلتمس عرض دنياه كي لا يحبط عمله، ولا طالبا لشهرة فيسقط شكره، ولا يكون مثله فيما يعطي كمثل صائد الطيور، يلقي لها بالحَب لا ليشبعها، بل ليشبع هو بها.
وبعيدا عن صديقي وضيفي العزيز، والذي آثرت الاحتفاظ باسمه حتى لا يضيع أجره وثوابه عند الله، هناك من يعطي رئاء الناس. ويحكى أن صديقا حلّت به ضائقة مالية، قال لصديق مقرّب منه: هل تعرف أحدا يفكّني من هذه الأزمة؟ فقال على الفور: اذهب إلى فلان، ولشدة ضائقته وتحت وطأة أزمته، ذهب من فوره إلى مكتب - فلان هذا - مبكرا، وعرض عليه أزمته وطلبه قرضا حسنا يسدّه حين ميسرة. فاعتذر فلان منه على الفور ورجاه الانصراف لأنه مشغول، فانصرف الرجل وذهب إلى صديقه الذي رشح له - فلانا - فأخبره بما حدث، فقال له صاحبه: اذهب الليلة إلى مجلسه المكتظ بالناس واطلب منه ما طلبته في الصباح، ففعل وذهب إلى مجلس فلان، وبدأ في تقديم طلبه أمام الناس، وقبل أن يكمل طلبه، صاح فلان في أحد معاونيه قائلا: إعط الرجل كل ما طلب، فأخذه وانصرف، شاكرا لصديقه حسن حيلته، ولم يكن في نيته أن يشكر من أعطاه المال، فقد رأى أنه من الذين قال الله تعالى عنهم في سورة البقرة - الآية 273 (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا.. ) صدق الله العظيم.
وقال الإمام علي، كرّم الله وجهه، «الكرم أعطف من الرحم».
ويحكى أن إعرابيا نزل بقوم فقال لهم: أرى وجوها وضيئة وأخلاقا رضيّة، فإن تكن الأسماء على نحو ذلك فقد سعدت بكم أمكم، فقال أولهم: أنا عطية، وقال الثاني، أنا كرامة، وقال الآخر: أنا عبدالواسع، وقال الأخير: أنا أدعى فضيلة، فأنشأ الإعرابي يقول:
كرم وبذل واسع وعطية
إلى أين أذهب أنتم أعين الكرم
من كان بين فضيلة وكرامة
لا ريب يفقؤ أعين العدم
فكسوه وأحسنوا إليه وانصرف شاكرا غانما مسرورا بكرمهم وسعيدا.
والكرم اسم واقع على كل نوع من أنواع الفضل، ولفظ جامع لمعاني السماحة والبذل، والكرم صفة أصيلة في النفس الإنسانية، ومعناه الإعطاء، الإنفاق، وطيب النفس، وهو ضد اللؤم والنذالة، والبخل والشح، ومن أجمل الصفات العربية التي تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل.
وهو سلوك متأصل في الشخصية العربية وفي الفرد العربي، مستمد من جينه الموروث، بمعنى أن هناك استعدادا جينيا لدى الإنسان العربي لانتهاج سلوك كريم، وهو يشتد ويتزاوج مع أسلوب التربية في فترة الطفولة والمراهقة، ولا يقتصر التأثير الجيني على أسلوب تربية الوالدين، وإنما تتأثر شخصية الفرد بأفكار المجتمع المحيط به، فتتعمق فيه السجية وتزداد. والجينات هى الوحدة الأساسية للمعلومات الوراثية في كل الكائنات الحية، فهي تحمل المعلومات اللازمة لبناء الخلايا والحفاظ عليها، والقيام بكل الوظائف الحيوية، ومن ثم بناء أجسام الكائنات وإعطاؤها صفاتها المتميزة.
وبعيدا عن علم النفس والجينات، فقد اهتم الإنسان العربي بهذه الصفة الحميدة حتى غدا يضرب به المثل، وليس أقرب من المثل الحاتمي.
ذلك أن الكرم والجود من سمات القيادة والسيادة عند العرب، حتى قال شاعرهم:
كل السيادة في السخاء ولن ترى
ذا البخل يدعى في العشيرة سيدا
وقد قال حكيمهم يوما: زينة الغنيّ الكرم، وزينة الفقير القناعة، وزينة المرأة العفّة.
وقال آخر: إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأكرم الكرم حسن الخلق.
ومع هذا فالمثل الشعبي يؤكد حقيقة مهمة وعقلانية، «الجود من الموجود».
وأحمد الله أن الكرم ما زال واحدا من صفاتنا العربية، التي لم تندثر كبعض من صفات حميدة أخرى، طواها عالم ما يدعى بالتحضر، وصار البعض منا يرفض ممارستها، مدعيا أنها من مخلفات الماضي، وربما نسي هذا النفر أن الأخلاق هي الدعامة الحقيقية لأي تحضر ولكل حاضر، وأن الحفاظ عليها من أسباب الرقي والتقدم، ورسولنا، عليه الصلاة والسلام، يقول (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وربّه يمتدحه بقوله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم).
وفي عرف الأمة الوسط يبقى التوازن والاتزان شعارا يجب أن تبقى رايته مرفوعة دائما، وميزانا لا يجب أن ترجح فيه كفة على أخرى. وبالبلدي نقول: «الشيء إن زاد عن حده انقلب لضده»، مع أن أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام أولا، ثم سخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروع الكرم.
استقبلت في الأسبوع الماضي ضيفا عزيزا كريما، وخرجت بعد انتهاء الضيافة لأودعه إلى سيارته، ولفت نظري أن رقم لوحتها (1) فقلت مازحا وملاطفا: ما شاء الله، تبارك الله، سيارتك رقم (1)، وكنت والله يعلم أقصد الإمعان في تكريمه والمبالغة في الاحتفاء به، وكأنما الجين المتعلق بالكرم توهج عند صديقي، وفوجئت به في اليوم التالي قد أكمل الإجراءات النظامية وأهداني اللوحة رقم (1). ولأني لست خبيرا في أرقام اللوحات ورمزيتها، سألت أولادي فقالوا «يا بوي لوحة زي هادي تساوي على الأقل نصف مليون ريال»، فتذكرت قول شاعر، وأيقنت أن ضيفي الكريم يعرف هذا البيت:
ومن كان ذا جود وليس بمكثر
فليس بمحسوب من الكرماء
وبالفعل فإن ضيفي ممن أنعم الله عليهم بكرمه وفضله، ولكن قد يكون هناك من يجود بكل ما يملك وقد يكون قليلا، وفي هذا لا أرى جودا ولا كرما، وخاصة إذا جاد على من جاد الله عليه، وكان يكفيه من الهدايا رمزها تعبيرا عن المودة، وتأكيدا للمحبة.
وحقيقة فإن السخي دائما مسرور ببذله، متبرع بعطاياه لا يلتمس عرض دنياه كي لا يحبط عمله، ولا طالبا لشهرة فيسقط شكره، ولا يكون مثله فيما يعطي كمثل صائد الطيور، يلقي لها بالحَب لا ليشبعها، بل ليشبع هو بها.
وبعيدا عن صديقي وضيفي العزيز، والذي آثرت الاحتفاظ باسمه حتى لا يضيع أجره وثوابه عند الله، هناك من يعطي رئاء الناس. ويحكى أن صديقا حلّت به ضائقة مالية، قال لصديق مقرّب منه: هل تعرف أحدا يفكّني من هذه الأزمة؟ فقال على الفور: اذهب إلى فلان، ولشدة ضائقته وتحت وطأة أزمته، ذهب من فوره إلى مكتب - فلان هذا - مبكرا، وعرض عليه أزمته وطلبه قرضا حسنا يسدّه حين ميسرة. فاعتذر فلان منه على الفور ورجاه الانصراف لأنه مشغول، فانصرف الرجل وذهب إلى صديقه الذي رشح له - فلانا - فأخبره بما حدث، فقال له صاحبه: اذهب الليلة إلى مجلسه المكتظ بالناس واطلب منه ما طلبته في الصباح، ففعل وذهب إلى مجلس فلان، وبدأ في تقديم طلبه أمام الناس، وقبل أن يكمل طلبه، صاح فلان في أحد معاونيه قائلا: إعط الرجل كل ما طلب، فأخذه وانصرف، شاكرا لصديقه حسن حيلته، ولم يكن في نيته أن يشكر من أعطاه المال، فقد رأى أنه من الذين قال الله تعالى عنهم في سورة البقرة - الآية 273 (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا.. ) صدق الله العظيم.