أثرياء مكة يستعينون بمعماريي العراق لبناء دورهم

السبت - 06 فبراير 2016

Sat - 06 Feb 2016

عرفت مكة المكرمة أنواعا مختلفة من الفنون المعمارية والهندسية والتصاميم المتنوعة للمباني منذ القرن الهجري الأول، ورغم أن النصوص التاريخية التي توثق لهذا الجانب قليلة، إلا أننا نجد فيها ومضات تعد شاهدا على اهتمام المجتمع المكي بالنواحي الجمالية والفنية في العمارة، وتقبله للتطور العمراني، وتوظيفه للمفردات المعمارية حسب حاجاته ومتطلباته وتقاليده. وانتقل الكثير من الفنون المعمارية التي عرفتها المدن الكبرى في العالم الإسلامي إلى مكة من خلال المهندسين المعماريين والفنيين الذين كان يرسلهم الخلفاء والسلاطين لإقامة مبان أو منشآت خيرية، أو توسعة الحرم، أو إضافة مبان إليه، والأهم من ذلك مهارة ورغبة الصانع والفني المكي في التجديد والتطوير.

ومما يلفت النظر في التاريخ المبكر لمكة أن بعض أثرياء المكيين كانوا يحضرون المهندسين وأصحاب الحرف إلى مكة لبناء وتشييد بيوتهم، مما أثرى العمران المكي بعناصر جديدة، وذكر أبوالوليد محمد بن عبدالله الأزرقي في تاريخه المعروف بأخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، أن عيسى بن علي بن عبدالله بن العباس أحضر أبوبحر النجار من العراق إلى مكة في القرن الثاني الهجري، ليعمل له أبواب داره التي على المروة، ويعمل له سقوفها.

وأشار الأزرقي في كتابه إلى أن بعض البيوت سميت بما يميزها من الفنون التي استخدمت فيها كالدار الرقطاء التي بناها معاوية - رضي الله عنه - واستخدم فيها الآجر الأحمر والجص الأبيض فكانت رقطاء. كما أشار إلى دار أخرى عرفت بالبيضاء تقع على المروة، بناها أيضا معاوية، واستخدم فيها الجص الأبيض فعرفت بالبيضاء. وكانت لبني العباس الدار المنقوشة التي تقع بين الصفا والمروة، وعرفت بالمنقوشة لكثرة النقوش التي تزينها.

وعرفت دار القوارير التي بنيت لهارون الرشيد بالرخام والفسيفساء من خارجها، وبني باطنها بالقوارير «الزجاج» والمينا الأصفر والأحمر، فعرفت بدار القوارير.

ومن البيوت التي اتسمت بالجمال وذكرها الأزرقي بيت سعد غلام معاوية وقال إنه بني بالحجارة المنقوشة، وزين بالتماثيل المصورة في الحجارة.

كما عرفت في مكة أنواع من الفنون التي وظفت في العمران المكي، وكمثال على ذلك نجد أن الفسيفساء، وهي من أرقى الفنون التي عرفت في العصور الإسلامية المبكرة، وطورت على أيدي الفنانين المسلمين، وزين بها الجامع الأموي في دمشق، وقبة الصخرة في القدس، استخدمت في مكة بأوائل الخلافة العباسية، حيث نقشت القبة التي بين زمزم وبيت الشراب بتشكيلات فسيفسائية أشار إليها الأزرقي في تاريخه سابق الذكر، وزينت بها البيوت، كما في دار القوارير وغيرها.

وتبعا لذلك، عرفت في مكة مصطلحات عمرانية متعددة، سواء للوحدات البنائية المستخدمة في المعمار المكي، أو الفنون المستخدمة فيها، منها ما اشتركت فيه مكة مع غيرها من العواصم الإسلامية، ومنها ما تفردت به.

ومن أبرز معالم المباني المكية الروشن، وهي تسمية فارسية تعني مكان سطوع الضوء، وأصله روشنا بمعنى نور وضياء وشعاع، كما أشار إلى ذلك عاصم رزق في كتابه مصطلحات العمارة والفنون الإسلامية.

وأقدم نص ذكر فيه ما ذكره الأزرقي بقوله في وصف باب العباس «فوق الباب روشن ساج منقوش بالذهب والزخرف طوله أربعة وعشرون ذراعا، وعرضه ثلاثة أذرع ونصف».

ووصف الأزرقي يدل على عظم وضخامة هذا النوع في العمارة المكية العباسية، وإن كان لا يعني مشابهته تماما للرواشين التي عرفتها مكة في عصورها الأخيرة، إلا أنه على عهد الأزرقي يطلق على الشبابيك الضخمة، الكثيرة الزخرفة.

أما في العصور الأخيرة سمي بالروشان، كتلة خشبية ضخمة، تصنع من خشب التيك أو الساج، والذي يعرف محليا بالخشب الفني أو الجاوي، وتكون بارزة عن البناء، متنوعة العناصر، تزين واجهة البيوت، وكان يصنع لبعضها سواتر خشبية تلي الشبابيك، تسمى الشيش، حتى توفر مزيدا من الخصوصية لأصحاب المنزل عندما تفتح هذه الشبابيك، خصوصا في الأدوار القريبة من الشارع.

وجمعت الرواشين المكية تجليات الفنانين المكيين، حيث أبرزت مهارتهم الحرفية والفنية التي اكتسبوها أو ورثوها عبر قرون عدة، إضافة إلى وظيفته في توفير الإضاءة والتهوية، وحفظ خصوصية أهل المنزل، حفل بالكثير من العناصر الفنية عالية الحرفية، حيث كان يشترك في صنع الواحد منه مجموعة من الحرفيين مختلفي الحرف، بداية من النجار الذي يصنع الهيكل والشبابيك، ثم النقاش الذي يصوغ وحداته الزخرفية الهندسية أو النباتية أو الخطية وينقشها، والخراط الذي يصنع القطع الخشبية الدقيقة المتحركة أو الثابتة، ثم الحداد الذي يصنع الشباك الحديدية إذا كان الروشان قريبا من الشارع، انتهاء بالدهان الذي يصبغه، يضاف إلى ذلك القزاز أو الزجاج الذي يضيف إليه قطعا من الزجاج الملون مما يزيده جمالا.

ولكل قطعة فيه تسمية متعارف عليها بين أصحاب المهنة، ومن تلك القطع:

القلاب: وهو قطع خشبية متراصة أفقيا، تحركها قطعة عمودية، يمكن تحريكها باليد بسهولة، للفتح أو الإغلاق.

القلاب الأبجور: وهو يشبه القلاب سابق الوصف، إلا أنه لا يكون متحركا، بل ثابتا، ويستخدم لتوفير الضوء والتهوية.

الرفرف: وهو القاعدة الكبيرة التي تحمل الروشان، وبعضهم يسميها الجناح.

الشيش: وهو خشب رفيع متقاطع يشبه حبات البقلاوة، يوفر الضوء، ويكون عادة في السواتر الخشبية التي تلي الشبابيك المكونة للروشان، كما تصنع منها أحيانا بسيطة وصغيرة، تغطي النوافذ من الخارج.

[email protected]