لعل أبرز من أرخ لبستان ماجل بدقة هو الإنجليزي إلدون راتر، والذي قدم إلى مكة في 1925 ووصف طوبوجرافيتها وحاراتها وأسواقها وحوانيتها.
مما دونه راتر عن مشاهداته اليومية هذا النص:
«في المواسم الحارة يذهبون (المكيون) باستمرار لأحد المقاهي على تخوم المدينة.. إلى المقهى ببركة «ماجد» وهنا قدر من الزراعة التي تشمل البرسيم، النخيل، السدر وأشجار الأثل، هو بستان بمقدار ربع الميل طولا وخمسين ياردة عرضا، على أنه هنا في هذا الجفاف وبين الكتل الصخرية الشاهقة، هذا المنظر الأخضر الخلاب يضيف شعورا من الانتعاش، هنا خزان عظيم للمياه، يقدر عمقا سبعين قدما وستين قدما عرضا، ويستقبل فائض المياه من عين زبيدة. إنه يبعد مسافة نصف ميل عن مكة خلف منتهى المسفلة، وعلى هذه التلال الصخرية التي صنعت على هيئة مصاطب، نصبت الأرائك والطاولات الخشبية الصغيرة، هذه المنطقة تحفها النسمات الباردة وتغطيها نجوم السماء المتألقة».
وغير بعيد عن زمان راتر كانت هذه الرياض الخضراء القصية بمثابة ناد أدبي لرواد الأدب والثقافة في الحجاز، حين كانت مكة عاصمة البلاد وحاضرتها الأولى يمثل المركاز، في الثقافة الحجازية قيمة حضارية جليلة، وبخاصة في ظل غياب المؤسسات العامة والأهلية التي تعنى بالناشئة والشباب أدبا وثقافة.
فها هو أحمد قنديل، الأديب ورائد الشعر الحلمنتيشي في نسخته الحجازية، يرفع المركاز إلى مقام النادي الأدبي، إذ أطلق على الكتاب الذي ضم مجموعته الشعرية اسم «المركاز»، ويقول حيال ذلك «المركاز بما فيه من حياة وفن وأدب وتاريخ، المركاز الذي نعتبره في تاريخنا النادي الأدبي، دون تسمية أو تدشين».
اعتاد رواد الأدب في الحجاز - كما يشير عزيز ضياء ـ أن يغشوا مركازا على هضبة بإزاء بركة ماجل يسمى «الأولمب»، إذ كان يختلف إليه رفقة حمزة شحاتة، أحمد قنديل وعبدالسلام الساسي، وغيرهم.
ومما يثير التأمل أن أولئك الأدباء الشباب آثروا هذا المركاز القصي دونا عن مقاهي قلب مكة كالتي في المسعى والقشاشية والشبيكة ونحوها، وليس لهذا الاختيار من تفسير سوى أن الماجل كان يوفر لهم ملتجئا بعيدا عن الرقيب وصخب الحياة المكية.
فكانت تلك المقاهي موئلا للإبداع الأدبي، والذي كانت ذروته المعركة الأدبية الشهيرة بين الأديبين الكبيرين حمزة شحاتة ومحمد حسن عواد على صفحات جريدة صوت الحجاز. فمضت قصائد الهجاء بين الأديبين الكبيرين تدفع إلى تلك المقاهي والمراكيز لتمثل مادة حية يتلهف لها ناشئة مكة.
ولنا أن نستحضر كيف كان عبدالسلام الساسي يتهلل إلى رفاقه بقصائد نشرت على صفحات صوت الحجاز، أو لم تنشر، فينشدها عن ظهر قلب كما كان يعرف، في ملأ من الشبيبة بمراكيز بركة ماجل، ولعل منها ما أبدع شحاتة، ونشرتها صوت الحجاز:
ويبدو أن الأدباء كانوا يختلفون إلى مقهى آخر في ظاهر مكة، كما يروي أحمد قنديل في كتابه «الجبل الذي صار سهلا» وله ذكر عند محمد علي مغربي في «أعلام الحجاز» ، في ناحية من لم تمتد لها يد العمران حينها من جرول ـ البيبان حاليا ـ يسمى مقهى العم حمزة، غير أنهم هجروه بعد سنوات إلى «الحقل» (كما يحلو لمحمد عمر توفيق تسميته) وهو بستان بركة ماجل.
فيروي مغربي ذكريات السمر مع أقرانه، حمزة شحاتة وصديقه الوفي أحمد قنديل في مقهى العم حمزة، إذ كانوا يرتحلون إلى ذلك المركاز من قلب مكة مشيا حتى إذا ما انتهوا له ارتموا على كراسي الشريط التقليدية ويدور «السكناب» أي البحث في قضايا الساعة الأدبية، وهناك تحديدا نشأت فكرة الشعر الحلمنتيشي في أحد نقاشات شحاتة وقنديل على كراسي الشريط.
وها هو قنديل يبث ما علق في خاطره عن تلك الأيام في رثاءه لشحاتة:
وعلى مسافة ليست ببعيدة من «الأولمب» كان هناك مقهى آخرا يختلف إليه فريق من الأدباء وكبار أهل المسفلة، ألا وهو مقهى عبدالحي، للشيخ صالح عبدالحي، إذ كانوا يتسامرون فيه من بعد العشاء.
ومن أدبيات تلك المقاهي العامرة أن كان لكل منها راو يقرأ للزبائن روايات عنترة والهلالي والزير سالم والظاهر بيبرس.
يقول أحمد قنديل عن تلك المظاهر «وبقدر ما تتوفر للراوي ذلاقة اللسان وحلاوة الصوت وحسن السكوت لدى المقاطع الهامة، يكون الإقبال عليه وعلى المقهى المخصص له».
وهكذا كان بستان ماجل يلعب دورا اجتماعيا وثقافيا لا يمكن تجاوزه، وهو معلم تاريخي جدير بالعناية والإحياء.
ومن هنا أدعو إلى إعادة إبراز الموقع بمسماه التاريخي كمتنزه طبيعي ومعلم مائي لأهل مكة وزوارها.
يا مجال الأفكار ضقت بها خطــ
ــوا وئيدا فكيف كيف النكوص
أي عهد هذا الذي غلبت فيــ
ــه على الحق سفلة ولصوص
قال قوم: زماننا دون أزما
ن تقضت وأعوز التمحيص
إنما الناس منذ كانوا ضعيف
لقوي وقانص وقنيص
يا فسيلا قد غص بالماء ريا
ثم النخل نصيبه منقوص
قد شغفنا بالأعين النجل حبا
وسبت غيرنا العيون الخوص
قال لي صاحبي: سيصلح شأن النـ
ـاس يوما فهالني التخريص
- - - -
أخي يا رفيق الدرب والعمر والمنى
ودنيا فنون الشعر والفكر والحب
أتذكر؟ طبعا! أنت تذكر مكة
وحاراتها.. من جرول.. وإلى الشعب
ونحن نماشي العمر فيها.. وحولها
مرابع.. من صوب تقود إلى صوب
نعيش مع الأتراب طول نهارنا
شبابا.. تغنى بالشباب وبالحب
ونسعى إلى المركاز ليلا بلهفة
نمد له كعبا تشدد بالكعب
تدير شؤون الرأي جدا.. أعدته
إليك مزاحا.. فالدعابة من دأبي
فنحيا .. كما نهوى .. الحياة نظنها
لدى مجمع المركاز مدرسة الشعب
مما دونه راتر عن مشاهداته اليومية هذا النص:
«في المواسم الحارة يذهبون (المكيون) باستمرار لأحد المقاهي على تخوم المدينة.. إلى المقهى ببركة «ماجد» وهنا قدر من الزراعة التي تشمل البرسيم، النخيل، السدر وأشجار الأثل، هو بستان بمقدار ربع الميل طولا وخمسين ياردة عرضا، على أنه هنا في هذا الجفاف وبين الكتل الصخرية الشاهقة، هذا المنظر الأخضر الخلاب يضيف شعورا من الانتعاش، هنا خزان عظيم للمياه، يقدر عمقا سبعين قدما وستين قدما عرضا، ويستقبل فائض المياه من عين زبيدة. إنه يبعد مسافة نصف ميل عن مكة خلف منتهى المسفلة، وعلى هذه التلال الصخرية التي صنعت على هيئة مصاطب، نصبت الأرائك والطاولات الخشبية الصغيرة، هذه المنطقة تحفها النسمات الباردة وتغطيها نجوم السماء المتألقة».
وغير بعيد عن زمان راتر كانت هذه الرياض الخضراء القصية بمثابة ناد أدبي لرواد الأدب والثقافة في الحجاز، حين كانت مكة عاصمة البلاد وحاضرتها الأولى يمثل المركاز، في الثقافة الحجازية قيمة حضارية جليلة، وبخاصة في ظل غياب المؤسسات العامة والأهلية التي تعنى بالناشئة والشباب أدبا وثقافة.
فها هو أحمد قنديل، الأديب ورائد الشعر الحلمنتيشي في نسخته الحجازية، يرفع المركاز إلى مقام النادي الأدبي، إذ أطلق على الكتاب الذي ضم مجموعته الشعرية اسم «المركاز»، ويقول حيال ذلك «المركاز بما فيه من حياة وفن وأدب وتاريخ، المركاز الذي نعتبره في تاريخنا النادي الأدبي، دون تسمية أو تدشين».
اعتاد رواد الأدب في الحجاز - كما يشير عزيز ضياء ـ أن يغشوا مركازا على هضبة بإزاء بركة ماجل يسمى «الأولمب»، إذ كان يختلف إليه رفقة حمزة شحاتة، أحمد قنديل وعبدالسلام الساسي، وغيرهم.
ومما يثير التأمل أن أولئك الأدباء الشباب آثروا هذا المركاز القصي دونا عن مقاهي قلب مكة كالتي في المسعى والقشاشية والشبيكة ونحوها، وليس لهذا الاختيار من تفسير سوى أن الماجل كان يوفر لهم ملتجئا بعيدا عن الرقيب وصخب الحياة المكية.
فكانت تلك المقاهي موئلا للإبداع الأدبي، والذي كانت ذروته المعركة الأدبية الشهيرة بين الأديبين الكبيرين حمزة شحاتة ومحمد حسن عواد على صفحات جريدة صوت الحجاز. فمضت قصائد الهجاء بين الأديبين الكبيرين تدفع إلى تلك المقاهي والمراكيز لتمثل مادة حية يتلهف لها ناشئة مكة.
ولنا أن نستحضر كيف كان عبدالسلام الساسي يتهلل إلى رفاقه بقصائد نشرت على صفحات صوت الحجاز، أو لم تنشر، فينشدها عن ظهر قلب كما كان يعرف، في ملأ من الشبيبة بمراكيز بركة ماجل، ولعل منها ما أبدع شحاتة، ونشرتها صوت الحجاز:
ويبدو أن الأدباء كانوا يختلفون إلى مقهى آخر في ظاهر مكة، كما يروي أحمد قنديل في كتابه «الجبل الذي صار سهلا» وله ذكر عند محمد علي مغربي في «أعلام الحجاز» ، في ناحية من لم تمتد لها يد العمران حينها من جرول ـ البيبان حاليا ـ يسمى مقهى العم حمزة، غير أنهم هجروه بعد سنوات إلى «الحقل» (كما يحلو لمحمد عمر توفيق تسميته) وهو بستان بركة ماجل.
فيروي مغربي ذكريات السمر مع أقرانه، حمزة شحاتة وصديقه الوفي أحمد قنديل في مقهى العم حمزة، إذ كانوا يرتحلون إلى ذلك المركاز من قلب مكة مشيا حتى إذا ما انتهوا له ارتموا على كراسي الشريط التقليدية ويدور «السكناب» أي البحث في قضايا الساعة الأدبية، وهناك تحديدا نشأت فكرة الشعر الحلمنتيشي في أحد نقاشات شحاتة وقنديل على كراسي الشريط.
وها هو قنديل يبث ما علق في خاطره عن تلك الأيام في رثاءه لشحاتة:
وعلى مسافة ليست ببعيدة من «الأولمب» كان هناك مقهى آخرا يختلف إليه فريق من الأدباء وكبار أهل المسفلة، ألا وهو مقهى عبدالحي، للشيخ صالح عبدالحي، إذ كانوا يتسامرون فيه من بعد العشاء.
ومن أدبيات تلك المقاهي العامرة أن كان لكل منها راو يقرأ للزبائن روايات عنترة والهلالي والزير سالم والظاهر بيبرس.
يقول أحمد قنديل عن تلك المظاهر «وبقدر ما تتوفر للراوي ذلاقة اللسان وحلاوة الصوت وحسن السكوت لدى المقاطع الهامة، يكون الإقبال عليه وعلى المقهى المخصص له».
وهكذا كان بستان ماجل يلعب دورا اجتماعيا وثقافيا لا يمكن تجاوزه، وهو معلم تاريخي جدير بالعناية والإحياء.
ومن هنا أدعو إلى إعادة إبراز الموقع بمسماه التاريخي كمتنزه طبيعي ومعلم مائي لأهل مكة وزوارها.
يا مجال الأفكار ضقت بها خطــ
ــوا وئيدا فكيف كيف النكوص
أي عهد هذا الذي غلبت فيــ
ــه على الحق سفلة ولصوص
قال قوم: زماننا دون أزما
ن تقضت وأعوز التمحيص
إنما الناس منذ كانوا ضعيف
لقوي وقانص وقنيص
يا فسيلا قد غص بالماء ريا
ثم النخل نصيبه منقوص
قد شغفنا بالأعين النجل حبا
وسبت غيرنا العيون الخوص
قال لي صاحبي: سيصلح شأن النـ
ـاس يوما فهالني التخريص
- - - -
أخي يا رفيق الدرب والعمر والمنى
ودنيا فنون الشعر والفكر والحب
أتذكر؟ طبعا! أنت تذكر مكة
وحاراتها.. من جرول.. وإلى الشعب
ونحن نماشي العمر فيها.. وحولها
مرابع.. من صوب تقود إلى صوب
نعيش مع الأتراب طول نهارنا
شبابا.. تغنى بالشباب وبالحب
ونسعى إلى المركاز ليلا بلهفة
نمد له كعبا تشدد بالكعب
تدير شؤون الرأي جدا.. أعدته
إليك مزاحا.. فالدعابة من دأبي
فنحيا .. كما نهوى .. الحياة نظنها
لدى مجمع المركاز مدرسة الشعب