صورة «المطوع» الذهنية!!
الأحد - 31 يناير 2016
Sun - 31 Jan 2016
كانت صورة المتدين الذهنية مشرقة جدا، تحمل الكثير من الدلالات الإيجابية المهمة كـ(الصدق/ الأمانة/ العدل/ التقوى/ التسامح/ السلام/ الثقة ...) وغيرها من الصفات التي تضع المتدين في صدر المجلس في مجتمعه، ولهذه الشخصية إجلال يفوق الكثير من الشخصيات الأخرى، فتجد الكبار المشهورين بشراهتهم للتدخين يوقرون هذه الشخصية ويتجنبون التدخين في حضرته، وحتى المزاح الذي يعتادونه في تبسطهم ورفع الكلفة بينهم يؤجلونه احتراما وتقديرا له، غير الإنصات الحقيقي حينما يتحدث، والتقدير الذي يحظى به من الجميع حين يتوسط في فض النزاعات والخصومات.
لما كنت طفلا في القرية، حفظت «زَمَلَة/ زامِلا» يردده الكبار حين يتعاونون في تنفيذ أعمالهم الجماعية، خاصة في بناء ما جرفته السيول من عقوم المزارع، أو بناء دار من الحجر وما شاكلها، إذ يقولون: (ما حمى الديرة مصلّي/ ما حماها إلا عُصاة)، وتدل (المصلي) هنا على التدين، ولا تنسب ترك الصلاة للعصاة (جمع عاصي)، وبالنظر إلى هذه المقولة ربما يستشعر البعض نظرتهم الدونية للمتدين في الوهلة الأولى، لكنهم حتما لا يقصدون هذا، بل ينطلقون من النظرة المشرقة التي تحدثت عنها في البداية، فالمتدين الحقيقي رجل سلام، وخاصة أن حروب القوم وحمايتهم لحدود أراضيهم ليست ضد عقيدة أخرى ولا عرقية مختلفة، بل ضد إخوتهم القبائل المجاورة، ولأن شخصية المتدين شخصية متسامحة ورحيمة لا تقبل القسوة ولا تبررها، فإن قليلي التدين أو (الجاهلين) بجل أمور الدين أكثر قسوة على خصومهم، إذ لم تستنير أعماقهم وأفكارهم بسماحة الإسلام دين الرحمة والسلام.
تؤكد هذا أيضا تعابير أخرى على المستوى الشعبي كنا نسمعها وربما ما تزال حية في بعض المجتمعات القروية، فالإنسان الجبار أو عديم الرحمة الذي لا يرقب في الآخرين إلًا ولا ذمة يطلقون عليه وصف (اليهودي)، أو (الكافر) وإذا بالغوا قالوا (كافر نسمة) دلالة على عمق جبروته وانتفاء الرحمة والسماحة والسلام عن أخلاقه، وكي لا يذهب بعض مفسري النوايا بالدلالة بعيدا، فأولئك لا يكفرون الناس بمسمى التكفير الشرعي المعروف، بل يترجمون ما تختزنه الذاكرة من معاني (القسوة والجبروت وانتفاء الرحمة) في قلب غير المسلم، ويختزلونها كلها في صفة (كافر) التي يطلقونها على الجبارين، وكذلك ما تختزن الذاكرة الجمعية عن جبروت (اليهود) وقسوتهم، فصارت أيضا صفة للإنسان الجبار عديم الرحمة.
اليوم نشهد اختلال صورة المتدين في الذهنية الشعبية، وقد ارتبط التدين بمظاهر وعادات معينة، وصار كثير من المتدينين لا يشاركون الناس حياتهم العادية، وإن شاركوهم فبشروط معينة أو باعتبارات خاصة ربما تضيّق على الآخرين، واقترن اسم المتدين بمسمى (المطوّع) حتى صار الناس يضيقون أحيانا بحضوره، وينتظرون مغادرته بفارغ الصبر، ويدققون كثيرا في تصرفاته، فيقبلون تصرفات الناس بأريحية مهما كانت، لكنهم يشنعون على هذه الفئة، وتسمع الكثير من الأحاديث عن ذلك في المجالس، تصل إلى المواجهات أحيانا، ووصمهم بالتشدد، أو بالنفاق، ولعل حصول بعضهم على امتيازات وظيفية خاصة، علاوة على وظيفته الرئيسية كأن يكون (مؤذنا/ وإماما/ وعضو هيئة/ ومأذون أنكحة وغيرها ...) شوه الصورة وشعروا بإقبال (المطاوعة) على الدنيا، على غير ما كان يعرف عن المتدينين الزاهدين، ناهيك عن تصرفات مستغلي التدين لمآرب دنيوية.
صورة المتدين اليوم اقترنت بالحدة والهجومية، وقد خفتت الأصوات المعتدلة المحببة، وطغت اللغة الحادة، اللغة التعميمية والمصنفة والشاتمة والمهددة، وكثر اللعن وتجهيل الناس، والحديث عن ضلال المجتمعات والحكومات، ثم تجاوزت ذلك إلى اقترانها بالرعب والقتل، فانتفت الرحمة من قلوب الكثيرين منهم حين زاد مد المنظمات الإرهابية، وانتشرت صور ومقاطع حز الرؤوس والتفجير والتعذيب باسم التدين، فكيف ستستقر تلك الصورة الذهنية المبجلة للمتدين، وكيف ستعود إلى حالتها الأولى.
يعلم المتدينون (أي المطاوعة) ـ وكلنا متدينون ـ ما أتحدث عنه، ولعل النشيد الذي أطلقه المنشد (حامد الضبعان) «يا مطوع.. لا تروّع.. أنت الأجمل.. أنت الأروع» جاء نتيجة لتبدل النظرة الاجتماعية إلى هذه الفئة، ولعل إحساسهم بالتبدل، خاصة من فئة الشباب جعلهم يقبلون على ارتداء ملابس الشباب، وعرض صورهم وهم يجالسون لاعبي الكرة، وكذلك حرص قنواتهم على عرض برامج (كشتات البر/ البحر) وتبسطهم وأنهم قوم كالناس يمزحون ويمرحون ويشبهونهم تماما، لكن مغالاة بعضهم في المزح البذيء زادت الأمر تعقيدا.
ختاما: إن أرادوا استعادة بعض تلك الصورة المشرقة فعليهم تبديل الخطاب والمسارعة إلى نبذ العنف، وحب الحياة والجمال والوطن والتعايش مع كل مكوناته، فمن الظلم تكذيب مزاعم الغرب عن (الإسلام فوبيا)، ونحن نلمسها تدخل قلوب مجتمعاتنا وشبابنا، فأبسط خلاف مع مطوّع اليوم ستجني بعده الكثير من التهم والشتائم والتهديدات، وربما الموت في المجتمعات المضطربة.
[email protected]
لما كنت طفلا في القرية، حفظت «زَمَلَة/ زامِلا» يردده الكبار حين يتعاونون في تنفيذ أعمالهم الجماعية، خاصة في بناء ما جرفته السيول من عقوم المزارع، أو بناء دار من الحجر وما شاكلها، إذ يقولون: (ما حمى الديرة مصلّي/ ما حماها إلا عُصاة)، وتدل (المصلي) هنا على التدين، ولا تنسب ترك الصلاة للعصاة (جمع عاصي)، وبالنظر إلى هذه المقولة ربما يستشعر البعض نظرتهم الدونية للمتدين في الوهلة الأولى، لكنهم حتما لا يقصدون هذا، بل ينطلقون من النظرة المشرقة التي تحدثت عنها في البداية، فالمتدين الحقيقي رجل سلام، وخاصة أن حروب القوم وحمايتهم لحدود أراضيهم ليست ضد عقيدة أخرى ولا عرقية مختلفة، بل ضد إخوتهم القبائل المجاورة، ولأن شخصية المتدين شخصية متسامحة ورحيمة لا تقبل القسوة ولا تبررها، فإن قليلي التدين أو (الجاهلين) بجل أمور الدين أكثر قسوة على خصومهم، إذ لم تستنير أعماقهم وأفكارهم بسماحة الإسلام دين الرحمة والسلام.
تؤكد هذا أيضا تعابير أخرى على المستوى الشعبي كنا نسمعها وربما ما تزال حية في بعض المجتمعات القروية، فالإنسان الجبار أو عديم الرحمة الذي لا يرقب في الآخرين إلًا ولا ذمة يطلقون عليه وصف (اليهودي)، أو (الكافر) وإذا بالغوا قالوا (كافر نسمة) دلالة على عمق جبروته وانتفاء الرحمة والسماحة والسلام عن أخلاقه، وكي لا يذهب بعض مفسري النوايا بالدلالة بعيدا، فأولئك لا يكفرون الناس بمسمى التكفير الشرعي المعروف، بل يترجمون ما تختزنه الذاكرة من معاني (القسوة والجبروت وانتفاء الرحمة) في قلب غير المسلم، ويختزلونها كلها في صفة (كافر) التي يطلقونها على الجبارين، وكذلك ما تختزن الذاكرة الجمعية عن جبروت (اليهود) وقسوتهم، فصارت أيضا صفة للإنسان الجبار عديم الرحمة.
اليوم نشهد اختلال صورة المتدين في الذهنية الشعبية، وقد ارتبط التدين بمظاهر وعادات معينة، وصار كثير من المتدينين لا يشاركون الناس حياتهم العادية، وإن شاركوهم فبشروط معينة أو باعتبارات خاصة ربما تضيّق على الآخرين، واقترن اسم المتدين بمسمى (المطوّع) حتى صار الناس يضيقون أحيانا بحضوره، وينتظرون مغادرته بفارغ الصبر، ويدققون كثيرا في تصرفاته، فيقبلون تصرفات الناس بأريحية مهما كانت، لكنهم يشنعون على هذه الفئة، وتسمع الكثير من الأحاديث عن ذلك في المجالس، تصل إلى المواجهات أحيانا، ووصمهم بالتشدد، أو بالنفاق، ولعل حصول بعضهم على امتيازات وظيفية خاصة، علاوة على وظيفته الرئيسية كأن يكون (مؤذنا/ وإماما/ وعضو هيئة/ ومأذون أنكحة وغيرها ...) شوه الصورة وشعروا بإقبال (المطاوعة) على الدنيا، على غير ما كان يعرف عن المتدينين الزاهدين، ناهيك عن تصرفات مستغلي التدين لمآرب دنيوية.
صورة المتدين اليوم اقترنت بالحدة والهجومية، وقد خفتت الأصوات المعتدلة المحببة، وطغت اللغة الحادة، اللغة التعميمية والمصنفة والشاتمة والمهددة، وكثر اللعن وتجهيل الناس، والحديث عن ضلال المجتمعات والحكومات، ثم تجاوزت ذلك إلى اقترانها بالرعب والقتل، فانتفت الرحمة من قلوب الكثيرين منهم حين زاد مد المنظمات الإرهابية، وانتشرت صور ومقاطع حز الرؤوس والتفجير والتعذيب باسم التدين، فكيف ستستقر تلك الصورة الذهنية المبجلة للمتدين، وكيف ستعود إلى حالتها الأولى.
يعلم المتدينون (أي المطاوعة) ـ وكلنا متدينون ـ ما أتحدث عنه، ولعل النشيد الذي أطلقه المنشد (حامد الضبعان) «يا مطوع.. لا تروّع.. أنت الأجمل.. أنت الأروع» جاء نتيجة لتبدل النظرة الاجتماعية إلى هذه الفئة، ولعل إحساسهم بالتبدل، خاصة من فئة الشباب جعلهم يقبلون على ارتداء ملابس الشباب، وعرض صورهم وهم يجالسون لاعبي الكرة، وكذلك حرص قنواتهم على عرض برامج (كشتات البر/ البحر) وتبسطهم وأنهم قوم كالناس يمزحون ويمرحون ويشبهونهم تماما، لكن مغالاة بعضهم في المزح البذيء زادت الأمر تعقيدا.
ختاما: إن أرادوا استعادة بعض تلك الصورة المشرقة فعليهم تبديل الخطاب والمسارعة إلى نبذ العنف، وحب الحياة والجمال والوطن والتعايش مع كل مكوناته، فمن الظلم تكذيب مزاعم الغرب عن (الإسلام فوبيا)، ونحن نلمسها تدخل قلوب مجتمعاتنا وشبابنا، فأبسط خلاف مع مطوّع اليوم ستجني بعده الكثير من التهم والشتائم والتهديدات، وربما الموت في المجتمعات المضطربة.
[email protected]