خطاب الكراهية ضد التجار

السبت - 30 يناير 2016

Sat - 30 Jan 2016

هناك خطاب هجائي ضد التاجر في مجتمعنا يتصاعد بصورة عامة منذ سنوات، فتجد الكتابات والتغريدات ومقاطع الفيديو التي تهاجمه وتحرض ضده انتشارا واسعا. كراهية التجار تلمسها مع كل مشكلة حول غلاء الأسعار وتكلفة المعيشة ومشكلة السكن وأسعار العقار والأراضي وغيرها. هذه الحالة يبدو بعض جوانبها يمكن تفسيرها.. لكنها تعززت مؤخرا بسبب الخطاب الإعلامي والصحفي النقدي الموجه ضد التاجر، وهناك جوانب لها علاقة بالتفسيرات الاجتماعية للتحولات التي تحدث في مكونات المجتمع مع بروز طبقات جديدة وتآكل أخرى.

لا يوجد في مجتمعنا جذور لوعي طبقي مبكر، وشعبية لخطاب اليسار، وقد يكون من أكثر المجتمعات العربية في غياب وتجذر لخطاب الرؤى الماركسية تاريخيا، فلم تتشكل أجيال مؤثرة تزاحم خطابات أخرى، فالوعي العام ظل محصورا بين عدة خطابات تقليدية رسمية ودينية وحتى التبلور المتأخر.. لا يزال هو الآخر ضعيفا ومشوها مصحوبا بعدة أمراض من بقايا الماضي المحلي ومشكلاته الثقافية والتعليمية.

مقابل ذلك يلاحظ في كثير من الأعمال الأدبية والصحفية في بعض الدول العربية وجود نفس يساري واضح في رؤية الواقع، والحديث عن الفقراء والأثرياء، والحقد الطبقي وتفسير مشكلات العنف والإرهاب والسرقات، وبعض أمراض المجتمع، أما لدينا فلا تظهر إلا تفسيرات نمطية تدور حول ضعف الوازع الديني وغياب الأسرة.

انسداد الأفق في النقد لبعض الجوانب والجهات، أدى إلى أن يصبح نقد التاجر أسهل الأهداف الإعلامية، وكلما كان الخطاب تحريضيا وغوغائيا يجد له جمهورا أوسع. تطورت هذه الحالة الهجائية لرجال الأعمال والمال بصورة هلامية بدون تمييز واضح بين أخطائهم وأخطاء الجهات الأخرى.

من يعمل في التجارة لا يستطيع عمل شيء بدون وجود مبررات واقعية، إما منطق السوق محليا وعالميا أو منطق واقعك، والإطار التنافسي الذي تشكل في تجربتنا المحلية. كثير مما يقدم هو خطاب شعبوي لا يميز بين مسؤولية التاجر الشخصية ومسؤولية الإطار الذي ينظم العمل التجاري في المجتمع، فتؤثر على سلوكيات التاجر والمستهلك حركة السوق الداخلية. وعندما تدقق في الخطاب الصحفي ومواقع التواصل الذي يصاحب مشكلة غلاء الأسعار للمواد الغذائية ومنها الأرز قبل سنوات، فتجد أن الحديث ضد التجار، واللوم لهم يوجه وكأنهم جهات وجمعيات خيرية، وليس نقدا وفق مفاهيم ومدارس اقتصادية عصرية توضح ما هو سبب الخلل الذي نشأ في السوق مما يتيح له الاستغلال والثراء على حساب الآخرين.

لقد كان ظهور الطبقة المتوسطة مع منتصف القرن الماضي أحد العوامل التي أعاقت تطور انتشار وجاذبية الخطاب الماركسي، في كثير من المجتمعات، واليوم يلاحظ هذا الخطاب المحلي أنه تطور إلى نوع من الكراهية العامة والعفوية بدون أفق نظري وانتماء لأي مدرسة عند هؤلاء النقاد وإنما هو إغراء عدم وجود كلفة مباشرة للنقد وتبعات له، فهو كلام مربح شعبويا يدغدغ البسطاء، فكل ما عليك هو اللف والدوران حول حكاية جشع التجار فلن تجد أحد يدافع عن التاجر، مع قابلية شعبية لتصديق أي تهم وكلام ضدهم، وعدم الرغبة في مناقشة التفاصيل.

يشارك في هذا النقد أيضا حتى أصحاب المعرفات في تويتر الذين يتوجسون من أي خطاب نقدي يفهم بأنه تثوير للمجتمع، ضد اتجاهات إسلامية وغيرها، لكن هذه الحساسية تغيب عند الحديث عن التاجر، فيشاركون بحماس وفعالية! لا أمثل هنا محامي الشيطان كما يقال، فمجال التجارة ورجال الأعمال مليء بالأخطاء، لكن هذا النقد يجب أن يخضع لأسس منهجية كما يخضع نقد الخطاب الديني وأي مجال آخر لذلك، ولا يحوله البعض إلى مجرد خطاب هجائي يستعمل كتنفيس شعبي غير مكلف.

قد يسهم هذا الخطاب العفوي الآن لنمو الكراهية الطبقية، التي لم يعان مجتمعنا من حدتها في الماضي، ولهذا فجاذبية هذا الخطاب اليوم قد يكون سببه ظهور فوارق طبقية حادة في السنوات الأخيرة مع تحولات اقتصادية لصالح فئات أكثر من فئات أخرى. وعزز ذلك اليوم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وكشفت بقوة هذه الفوارق، مع تطورات الحاجة الشعبية للترفيه وكلفتها العالية.. من سفر ورحلات، فبدأ يشعر كثير من محدودي الدخل بهذه المسافات الكبيرة، من خلال الاطلاع على ما لدى الآخر من إمكانيات.

حالة الوفرة الشاملة في مرحلة الطفرة الأولى التي وسعت كثيرا من الطبقة الوسطى كسرت حدة هذه الفوارق ثم تعرضت لضغوط وتآكل خلال نهاية الثمانينات ومرحلة التسعينات حتى جاءت الطفرة الثانية وما صاحبها من تضخم سعري ومتطلبات معيشية أكبر.. بدأت تظهر معه هذه الفوارق الطبقية بصورة أكثر حدة من خلال نوع المسكن والسيارة وأسلوب الحياة.