الانفتاح الإعلامي يخلق واقعا فكريا جديدا

الأربعاء - 20 يناير 2016

Wed - 20 Jan 2016

في عالمنا العربي ساهم غياب النقد والانفتاح على التعددية والقبول بالآخر في تكوين بيئات دينية، وبيئات علمية منغلقة على نفسها، وفي البيئة المنغلقة يصعب اكتشاف القصور الذاتي، مما يساهم في تكوين عقل جمعي متقبل لكل أفكار البيئة (العلمية) أو (الدينية)، وينظر إلى الآخر المختلف - نتيجة الجهل به - بعين الشك والحذر، إن لم يكن العداوة.

فأذكر ونحن صغار أنني كنت لا أعرف عن الشيعة شيئا مطلقا، وكنت أظن الشيعة والشيوعية شيئا واحدا، وكل ما كان في مخيالنا آنذاك عن الشيعة هو ما نسمعه عن أسطورة عبثهم بالطعام والشراب إذا قدموه لسني، وحدثني صديق شيعي أنه يحفظ من مرحلة الطفولة أن الدعاء الذي ترتعد له الفرائص الذي كان يسمعه متداولا في بيئته آنذاك «الله يجعل في قبرك عظم سني».

فالجهل بالآخر نتيجة انغلاق البيئات على نفسها ساهم في مثل هذا، وقل مثل ذلك في الأفكار المتداولة في البيئات العلمية الشرعية المنغلقة على نفسها، إذ تترسخ في تلك البيئات أحكام شرعية مستقاة من اجتهادات الفقهاء المتقدمين، وتتصف بصفة القطعية لدى تلك البيئات، ومن أمثلة ذلك في البيئة العلمية السنية القول بقتل الداعي للبدعة إذا كان فيه مصلحة قطع الدعوة للبدعة، فهو حكم شرعي متداول في الوسط العلمي لدى بعض فقهاء المذاهب الفقهية السنية قديما، وأشدها في القول به المذهب المالكي، ومؤداه جواز قتل الداعي لأي فكرة دينية عقدية تخالف المذهب السني، ويشمل هذا طيفا واسعا من المذاهب كدعاة مذاهب الشيعة، والجهمية، والإباضية، والمعتزلة، وما زال هذا الحكم متداولا في البيئة العلمية السلفية اليوم، ومن أمثلة ذلك الذي ما زال ممارسا إلى اليوم – أيضا - تأصيل لعن الشيخين، واتخاذه قربة في زيارة الحسين لدى المذهب الشيعي، وتداول القصائد الإنشادية الجماعية التي تتحدث عن المظلومية، وتحث على الأخذ بالثأر لدى الطائفة الشيعية، ومن الأمثلة – أيضا - تقرير كتب فقهية تراثية في التعليم الديني المغلق على فئة المنخرطين فيه، وتلك الكتب تحوي أحكاما فقهية صادمة، فقد كشفت دراسة كتبها أحد الباحثين عن مناهج الأزهر عن نتائج صادمة، ففي كتاب (الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع) الذي يدرسه طلاب الأزهر، تحدث عن حل أكل الميت للمضطر، ومما جاء فيه: «وله - أي: للمسلم المضطر الـمُشفِي على الهلاك جوعا- قتل مرتد وأكله، وقتل حربي - ولو صغيرا - أو امرأة حربية وأكلهما، لأنهم غير معصومين»، وفي كتاب (الشرح الصغير) المقرر على الصف الثالث «وله – أي المسلم المضطر جوعا - قتل الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصـلاة، ومن له عليه قصاص، وإن لم يأذن الإمام في القتل؛ لأن قتلهم مستحق، ثم بعد ذلك يأكل منه ما يشاء»، وفي مقرر الصف نفسه، جاء في الكتاب المقرر، وهو كتاب (الاختيار لتعليل المختار): وهو يتحدث عن المرتد: «فإن قتله قاتل قبل العرض – أي عرض التوبة عليه - لا شيء عليه»، وهذا تشريع قتل المرتد لآحاد الناس، وجاء فيه في أحكام الجهاد: «أما الأسارى فيمشون إلى دار الإسلام، فإن عجزوا قتل الإمام الرجال، وترك النساء والصبيان في أرض مضيعة حتى يموتوا جوعا وعطشا؛ لأنا لا نقتلهم للنهي»، وفي كتاب «الروض المربع بشرح زاد المستقنع» المقرر في الصف الثالث الثانوي، جاء فيه، وهو يتحدث عن أحكام نفقة المرأة على زوجها: «ومن حُبِست - ولو ظلما - أو نشزت، أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج، أو سافرت لحاجتها - ولو بإذنه - سقطت نفقتها».

وثمة مظاهر وأحكام غيرها مستغربة ظلت لمئات السنين تمارسها تلك البيئات الدينية والعلمية المنغلقة على نفسها، وما زال بعضها في تلك البيئات دون أي نقد، أو تمحيص؛ لأن نطاق تداولها ظل محصورا داخل تلك البيئات.

واليوم نتيجة الانفتاح الهائل في وسائل الإعلام، بدأت أسوار تلك البيئات تتحطم، وتصبح أفكارها وممارساتها تحت أضواء الإعلام الباهرة، وهذا ما أتاح للمثقفين إعمال مبضع النقد فيها، وجعل الرأي العام في تلك البيئات يتساءل عن مدى صوابيتها، ويشكل ضغطا هائلا على منظريها، وكل هذا فرض على بعض تلك البيئات المراجعة لأفكارها، وتصوراتها، ومظاهرها، وسيفرض عاجلا أو آجلا على بقية البيئات العمل نفسه، فالحرية الإعلامية خلقت وضعا جديدا لا يلبث أن يعم، فأول درجات الوعي الفكري إدراك الحاجة للمراجعة والتصحيح والتجديد، ولهذا مع كل ما نعانيه في مجتمعاتنا العربية من تطرف وعنف وفوضى إلا أن يقظة الوعي الذي خلقه الانفتاح الإعلامي يجعلنا نتفاءل بأن هذا الوعي سيستمر في تصاعد إلى أن ينتج واقعا فكريا جديدا.

[email protected]