عرف المكيون التغرب والبعد عن الأوطان في عصور مبكرة، وليس أدل على ذلك من رحلتي الشتاء والصيف قبل الإسلام، ثم جاءت الهجرة إلى بلاد الحبشة، ثم الهجرة المحمدية الشريفة إلى المدينة المنورة قبل فتح مكة، ثم خروج المكيين للجهاد وانتشارهم في أصقاع الأرض للتعليم ونشر الدعوة بعد الفتح، وما زالت لهم بقايا في المغرب والمشرق.
وفي الوقت الذي استقبلت فيه مكة المكرمة عبر تاريخها الطويل كثيرا من المهاجرين والمجاورين وطلبة العلم كل مكان، ودعت كذلك كثيرا من أبنائها الذين فارقوها في رحلات تنوعت ما بين الطويلة والقصيرة، للجهاد وطلب العلم، أو للتجارة أو لمجرد السياحة، وفي التاريخ المكي القريب أو البعيد كثير وكثير من هذه النماذج، ولعل الأمر الجامع بينهم بعد خروجهم من مكة هو التشوق والحنين إلى مكة، برغم ما رأوه في أصقاع الأرض من زينة وجمال وأفياء وحدائق غناء، ومنهم من حالت دون عودته الوفاة، ومنهم من قضى وطره ثم عاد.
لذا نجد المؤرخ أحمد المقري التلمساني يقول في كتابه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب «وأما بنو هاشم من قريش فبالأندلس منهم جماعة، وأما بنو زهرة فهم بإشبيلية أعيان متميزون، وأما بنو مخزوم فمنهم أهل حصن المدور، وفي الأندلس من ينسب إلى جمح وإلى بني عبدالدار، وأما هذيل فمنازلهم بجهة أريولة من كورة تدمير».
ومن الصدف التي نقلت إلينا أخبار بعض المكيين في الغربة ما ذكره شكيب آرسلان في كتابه شوقي أو صداقة أربعين سنة، عن طاهر الصباغ المكي المولد صاحب المقهى العربي في باريس، والذي يقدم فيه الأطعمة العربية وقهوة البن العربي ويحفظ أشعار شوقي وحافظ إبراهيم والبارودي ويرويها ويعتمد على ذاكرته في إنشاد شعره عندما يكون في باريس.
وتحدث عنه في أكثر من موضع من كتابه ومن ذلك قوله «كنا نجتمع في باريس أنا وأحمد شوقي والفنان محمد عبدالوهاب، في مقهي داركور في الحي اللاتيني سنة 1926م، وكان يوجد رجل أديب باهر الذكاء واسع الرواية فصيح اللهجة اسمه السيد طاهر الصباغ مكي الأصل، تونسي الدار، كان وجوده في ذلك المقهى باعث نشوة، وسبب سلوة لكل من ينتاب المحل، وكان يروي كثيرا من شعر شوقي وغيره من الشعراء، كما أنه كان يقرأ أكثر مقالاتي ويتتبعها، فكان إذا جئت أنا وشوقي ومحمد عبدالوهاب ومن معنا من الأصحاب، وجلسنا للمنادمة وسماع الألحان الشجية على نقرات العود يأخذ السيد طاهر الصباغ الطرب، ولا يسعه المكان من الفرح، وكان يتحير كيف يصنع ليوفر أسباب راحتنا وسرورنا، وتوفي الصباغ قبل وفاة شوقي بقليل رحمهما الله تعالى».
وربما يكون من ذكره آرسلان في كتابه من ذرية الشيخ محمد بن أحمد الصباغ المؤرخ المكي ومطوف التونسيين والذي سكن في تونس فترة ومات بها سنة 1320هـ.
وجاء في كتاب نفح الطيب سابق الذكر إشارة إلى وصول الأديب المكي أبوالفضل بن محمد العقاد إلى السلطان المنصور السعدي من أشهر السلاطين السعديين في المغرب «ت 1012هـ»، والذي خاطبه بموشحين يتشوق فيها إلى مكة وأهلها منها قوله:
كلما جن ظلام الغسق
هزني الشوق إليكم شغفا
واعتراني من جفاكم قلقي
مذ تذكرت جيادا والصفا
ومن أشهر المغتربين والرحالة المكيين الشاعر أحمد بن محمد الجوهري «ت 1079هـ»، الذي نظم في أيام غربته أجمل أبيات شعره بعد أن أقام في الهند خمسة وعشرين عاما، ثم عاد منها إلى مكة ثم خرج منها إلى بلاد فارس، ثم منها خرج إلى الهند مرة أخرى ومات بها وترك كثيرا من المقطوعات الشعرية التي يتغنى فيها بمكة ومعالمها ومن ذلك قوله:
ولو أن أرض الهند في الحسن جنة
وسكانها حور وأملكها وحدي
لما قستها يوما ببطحاء مكة
ولا أخترت عن سعدى بديلا هوى هند
ومن أعظم أبياته في وصف حاله في البعد عن مكة قوله:
تذكرت إذ جاء الحجيج بمكة
ونحن وقوف ننظر الركب محرما
فصرت بأرض الهند في كل موسم
يجدد تذكاري لقلبي مأتما
ويعد المؤرخ احمد بن محمد الحضراوي «ت1326هـ» ممن اغترب عن مكة، والذي رحل في طلب العلم والسياحة إلى مصر ودمشق والقدس، وسكن فترة إسطنبول، والتقى فيها بكبار السياسيين والمفكرين، ودون كثيرا من مشاهداته في مؤلفاته التي تركها.
وقصد كثير من المكيين تونس حتى أصبحت لهم مشيخة تجمع شمل المقيمين منهم هناك، ولهم شيخ يرجع إليه كان يعرف بشيخ المكاوية، من مهامه توفير الراحة للواصلين منهم إلى تونس وإنزالهم في الأوقاف الخاصة بهم، والتأكد من انتمائهم إلى مكة، وممن عاش في تونس فترة من الوقت سادن الكعبة الشيخ محمد صالح بن أحمد الشيبي «ت1335هـ»، والذي رحل إليها طلبا للرزق، كما توفي بها سنة 1313هـ الشيخ زين العابدين بن عبدالله الشيبي في إحدى رحلاته.
ومن الرحالة المكيين السيد حسين الكتبي الذي رحل إلى الهند، ووصل إلى حدود أستراليا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وسكن الصين وتعلم اللغة الصينية وأسلم على يديه كثير من أهلها ثم عاد إلى مكة.
ومن هؤلاء الرحالة الشيخ عبدالحميد ميرداد، الذي رحل إلى الهند وسيلان والملايو وجزر الهند الشرقية وبورما والهند الصينية، ووصل إلى حدود أستراليا، وأسلم على يديه كثير من أهل هذه البلاد، وذكر الكثير من أخباره ابنه الرحالة مثله محمد عبدالحميد ميرداد في كتابه رحلة العمر.
والواقع أن رحلات المكيين وغربتهم عبر التاريخ وما بنوه من صروح علمية، من المواضيع التي تستحق أن يفرد لها مؤلف خاص.
[email protected]
وفي الوقت الذي استقبلت فيه مكة المكرمة عبر تاريخها الطويل كثيرا من المهاجرين والمجاورين وطلبة العلم كل مكان، ودعت كذلك كثيرا من أبنائها الذين فارقوها في رحلات تنوعت ما بين الطويلة والقصيرة، للجهاد وطلب العلم، أو للتجارة أو لمجرد السياحة، وفي التاريخ المكي القريب أو البعيد كثير وكثير من هذه النماذج، ولعل الأمر الجامع بينهم بعد خروجهم من مكة هو التشوق والحنين إلى مكة، برغم ما رأوه في أصقاع الأرض من زينة وجمال وأفياء وحدائق غناء، ومنهم من حالت دون عودته الوفاة، ومنهم من قضى وطره ثم عاد.
لذا نجد المؤرخ أحمد المقري التلمساني يقول في كتابه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب «وأما بنو هاشم من قريش فبالأندلس منهم جماعة، وأما بنو زهرة فهم بإشبيلية أعيان متميزون، وأما بنو مخزوم فمنهم أهل حصن المدور، وفي الأندلس من ينسب إلى جمح وإلى بني عبدالدار، وأما هذيل فمنازلهم بجهة أريولة من كورة تدمير».
ومن الصدف التي نقلت إلينا أخبار بعض المكيين في الغربة ما ذكره شكيب آرسلان في كتابه شوقي أو صداقة أربعين سنة، عن طاهر الصباغ المكي المولد صاحب المقهى العربي في باريس، والذي يقدم فيه الأطعمة العربية وقهوة البن العربي ويحفظ أشعار شوقي وحافظ إبراهيم والبارودي ويرويها ويعتمد على ذاكرته في إنشاد شعره عندما يكون في باريس.
وتحدث عنه في أكثر من موضع من كتابه ومن ذلك قوله «كنا نجتمع في باريس أنا وأحمد شوقي والفنان محمد عبدالوهاب، في مقهي داركور في الحي اللاتيني سنة 1926م، وكان يوجد رجل أديب باهر الذكاء واسع الرواية فصيح اللهجة اسمه السيد طاهر الصباغ مكي الأصل، تونسي الدار، كان وجوده في ذلك المقهى باعث نشوة، وسبب سلوة لكل من ينتاب المحل، وكان يروي كثيرا من شعر شوقي وغيره من الشعراء، كما أنه كان يقرأ أكثر مقالاتي ويتتبعها، فكان إذا جئت أنا وشوقي ومحمد عبدالوهاب ومن معنا من الأصحاب، وجلسنا للمنادمة وسماع الألحان الشجية على نقرات العود يأخذ السيد طاهر الصباغ الطرب، ولا يسعه المكان من الفرح، وكان يتحير كيف يصنع ليوفر أسباب راحتنا وسرورنا، وتوفي الصباغ قبل وفاة شوقي بقليل رحمهما الله تعالى».
وربما يكون من ذكره آرسلان في كتابه من ذرية الشيخ محمد بن أحمد الصباغ المؤرخ المكي ومطوف التونسيين والذي سكن في تونس فترة ومات بها سنة 1320هـ.
وجاء في كتاب نفح الطيب سابق الذكر إشارة إلى وصول الأديب المكي أبوالفضل بن محمد العقاد إلى السلطان المنصور السعدي من أشهر السلاطين السعديين في المغرب «ت 1012هـ»، والذي خاطبه بموشحين يتشوق فيها إلى مكة وأهلها منها قوله:
كلما جن ظلام الغسق
هزني الشوق إليكم شغفا
واعتراني من جفاكم قلقي
مذ تذكرت جيادا والصفا
ومن أشهر المغتربين والرحالة المكيين الشاعر أحمد بن محمد الجوهري «ت 1079هـ»، الذي نظم في أيام غربته أجمل أبيات شعره بعد أن أقام في الهند خمسة وعشرين عاما، ثم عاد منها إلى مكة ثم خرج منها إلى بلاد فارس، ثم منها خرج إلى الهند مرة أخرى ومات بها وترك كثيرا من المقطوعات الشعرية التي يتغنى فيها بمكة ومعالمها ومن ذلك قوله:
ولو أن أرض الهند في الحسن جنة
وسكانها حور وأملكها وحدي
لما قستها يوما ببطحاء مكة
ولا أخترت عن سعدى بديلا هوى هند
ومن أعظم أبياته في وصف حاله في البعد عن مكة قوله:
تذكرت إذ جاء الحجيج بمكة
ونحن وقوف ننظر الركب محرما
فصرت بأرض الهند في كل موسم
يجدد تذكاري لقلبي مأتما
ويعد المؤرخ احمد بن محمد الحضراوي «ت1326هـ» ممن اغترب عن مكة، والذي رحل في طلب العلم والسياحة إلى مصر ودمشق والقدس، وسكن فترة إسطنبول، والتقى فيها بكبار السياسيين والمفكرين، ودون كثيرا من مشاهداته في مؤلفاته التي تركها.
وقصد كثير من المكيين تونس حتى أصبحت لهم مشيخة تجمع شمل المقيمين منهم هناك، ولهم شيخ يرجع إليه كان يعرف بشيخ المكاوية، من مهامه توفير الراحة للواصلين منهم إلى تونس وإنزالهم في الأوقاف الخاصة بهم، والتأكد من انتمائهم إلى مكة، وممن عاش في تونس فترة من الوقت سادن الكعبة الشيخ محمد صالح بن أحمد الشيبي «ت1335هـ»، والذي رحل إليها طلبا للرزق، كما توفي بها سنة 1313هـ الشيخ زين العابدين بن عبدالله الشيبي في إحدى رحلاته.
ومن الرحالة المكيين السيد حسين الكتبي الذي رحل إلى الهند، ووصل إلى حدود أستراليا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وسكن الصين وتعلم اللغة الصينية وأسلم على يديه كثير من أهلها ثم عاد إلى مكة.
ومن هؤلاء الرحالة الشيخ عبدالحميد ميرداد، الذي رحل إلى الهند وسيلان والملايو وجزر الهند الشرقية وبورما والهند الصينية، ووصل إلى حدود أستراليا، وأسلم على يديه كثير من أهل هذه البلاد، وذكر الكثير من أخباره ابنه الرحالة مثله محمد عبدالحميد ميرداد في كتابه رحلة العمر.
والواقع أن رحلات المكيين وغربتهم عبر التاريخ وما بنوه من صروح علمية، من المواضيع التي تستحق أن يفرد لها مؤلف خاص.
[email protected]