مرزوق تنباك

يا أمان الخائفين

الثلاثاء - 26 نوفمبر 2019

Tue - 26 Nov 2019

هذا العنوان كان قفلة لمقال صحفي أدبي كان يكتبه في سبعينات القرن الماضي الميلادي الشيخ ضياء الدين رجب رحمه الله في مجلة المنهل المعروفة. والشيخ من أبناء المدينة المنورة ومن رجال القضاء والتعليم ومن الأدباء الذين كنا نقرأ لهم ما يكتبون في تلك الأيام الخوالي.

كان العالم كله يعيش في أمن واستقرار، وليس هناك من أسباب الخوف إلا ما لا نعرف، وما أدري لماذا كان الشيخ يختم مقالاته في هذه اللازمة (يا أمان الخائفين) وهذه القفلة هي ما كان يشدني لقراءة مقالاته، حتى إنني لا زلت أتذكر بعض موضوعاتها. واليوم ونحن نرى ونسمع ضروبا من الخوف في العالم من حولنا عرفت معنى تلك القفلة.

وعلى كل حال، الخوف والأمن ضدان يتعاوران الناس وتسير حياتهم بين هذين الضدين، وقلما افترقا في ضمائر الناس ومداركهم رغم أنهما ضدان ولا تجتمع الأضداد إلا فيهما، وبين اجتماعهما في النفس اللوامة الوجلة اتسقت الحياة وسلك البشر طرقا شتى لا يفارقهم فيها الخوف ولا البحث عن طلب الأمن وأسبابه.

وقد زاوج القرآن الكريم والتنزيل العظيم بينهما وقرن كثيرا من وعده ووعيده فيهما، وميز بين عوامل أمن الدنيا وأمن الآخرة وأسبابهما وأحياهما معا، وكرر الوعد والوعيد بهما أبدا، والأمن هو مطلب الإنسان الأسمى وهو كذلك بلا شك ولا ريب، لكن يبقى الأمن والخوف نسبيين، فقد يخشى الإنسان أشياء كثيرة أن تحدث له في حياته أو يقدر حدوثها ويدرك أخطارها فيسعى لتجنبها والحذر منها، فقد يخاف الفقر والمرض ويخشى المستقبل وما يأتي به وما يمكن أن يواجه من المصاعب، ويخاف أن يخفق في طلب ما يريد ويخاف جور الزمن وقسوته، ويخشى غير ذلك كثيرا من حاجات الدنيا ومتطلباتها، وخوفه من كل ذلك يجعله يبحث عن الأمن ويجتهد في تلمس أسبابه.

وقد تصور بعض المتشائمين أن بكاء الطفل ساعة يولد ليس مقدمة للحياة ولا إعلانا عن قدومه إليها، ولكنه خوف من المستقبل الذي ينتظر كل مولود ويعرف حجم الخطر الذي يحدق به عندما يصل إلى الدنيا.

أما الأمن فكان الشعور به أقل من الشعور بالخوف، وقد لا يغتبط الآمنون بأمنهم ولا يعرفون قيمته في حياتهم وأهميته حتى يزول عنهم فيكون شعورهم بفقدان الأمن على نفوسهم أخطر بكثير من توجس الخوف والقلق من حدوث المكروه.

لكن لو نظرنا بالأمر نظرة تجربة واقعية لعواقب الخوف وعواقب الأمن وأنصفناهما وحكمنا بينهما بالعدل لرجحت كفة الخوف على الأمن كثيرا، فالخوف الذي يلازم الإنسان يعود إليه الفضل في كل ما حققت البشرية من تقدم ومن نجاح، وكذلك الإنسان كفرد لم يحقق لنفسه ومجتمعه وأولاده ومن حوله شيئا إلا لأن الخوف لازمه وأشعره بخطر الحياة بكل ما فيها من متاعب ورغائب، لذلك يسعى جهده ليصير غنيا خوف مسغبة الفقر والعوز، ومكتفيا خوف الحاجة إلى الناس، ويبذل ما استطاع لرعاية صحته وقوته وسلامة عقله ومنطق لسانه حتى لا يقع فريسة للمرض والضعف بعد القوة، أو الجهل والاحتقار، وكلما زاد خوفه من أمر عمد إلى توقيه وسد الطريق الذي قد يأتي منه بضده، فازدهرت الحياة وتكللت جهود الخائفين بأمن الدنيا وعطائها واستمرار العمل في عمارتها، وتعاونت عقول الخائفين وقلوبهم وأيديهم حتى جعلوا من الخوف أمنا ومن الضعف قوة ومن الوحدة مجتمعا فاضلا يعيشون ضمن أفراده، ويجلبون لأنفسهم ضروبا من أسباب البقاء والاستمرار والقوة والشموخ والارتقاء المعرفي.

وما كان الخوف المعقول والقلق المقبول في نفس ولا عند جماعة إلا حقق لها أمنا أفضل وحياة أكرم ومستقبلا أحسن من غيرها، واطمئنانا تحافظ به على مكتسباتها. وفي النهاية فإن الخوف يدفع الإنسان إلى مزيد من الحذر والتوقي، وأما الأمن فدعة وسكون وارتخاء. ورغبة كل العالم أن يسود الأمن ويكون وارف الظلال. ويا أمان الخائفين.

Mtenback@