حذامي محجوب

الصعود إلى رئاسة الجمهورية قيس سعيد رئيسا

الاثنين - 14 أكتوبر 2019

Mon - 14 Oct 2019

إن انتخاب قيس سعيد رئيسا لتونس كان منتظرا ولا يثير أي استغراب وفق كل استطلاعات الرأي بعد الدورة الأولى، غير أنه لفهم نتيجة هذه الانتخابات يجب أن نرجع قليلا إلى الوراء، ففي يونيو الماضي وبعد أن علم رئيس الحكومة يوسف الشاهد وفق نتائج سبر الآراء أن المرشح نبيل القروي يتصدر المرتبة الأولى لنوايا التصويت ثارت ثائرته، وهو الذي يعتبر نفسه الوريث الوحيد والخليقة الأوحد للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، فتم الإسراع إلى تعديل قانون الانتخابات لقطع الطريق على جميع المعارضين السياسيين الذين يمكن أن ينافسوه في سباقه نحو قرطاج.

هذا التلاعب بالقانون الانتخابي غداة الانتخابات أحدث غضبا شديدا لدى الطبقة السياسية، مما جعل الرئيس الراحل يرفض سن هذا القانون وتوقيعه قبل وفاته. هذا يعني أن الحملة الانتخابية للرئاسيات قد انطلقت بوجود مترشحين غير مرغوب فيهم من قبل الحكومة.

ولما عجز رئيس الحكومة وحلفاؤه عن تمرير القانون الانتخابي الإقصائي لجأ إلى العدالة للحد من شعبية وصعود خصمه السياسي نبيل القروي. وفي 23 أغسطس يقع إيقاف نبيل القروي بمقتضى بطاقة إيداع صدرت عن دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس.

وقد ترشح لمنصب رئيس الجمهورية 24 مترشحا للدور الأول، واتسمت هذه الانتخابات التي جرت يوم 15 سبتمبر بنسبة عزوف كبيرة وبمعاقبة السلطة السياسية القائمة وعلى رأسها رئيس الحكومة، فقد كانت النتائج ضربا لكل الوجوه السياسية التاريخية للمشهد السياسي التونسي ولم يعط الشعب الثقة إلا للمرشحين: نبيل القروي وقيس سعيد.

الأول هو رجل أعمال معروف يتصدر ساحة الإعلام وقد تحول منذ فقدانه لابنه في حادث مرور إلى محارب للفقر ونصير للمهمشين والمظلومين من خلال جمعية "خليل تونس".

أما الثاني فهو أستاذ متقاعد في القانون الدستوري، محافظ ومتحفظ، لم يعارض يوما النظام السابق ولم ينطق ببنت شفة خلال العقود الماضية. لكن مناصريه قدموه على أنه "المهدي المنتظر" الذي اكتشفه الشباب وهو الذي سينقذ البلاد والعباد من الشر والفساد. آمين يا رب العالمين.

إن استبعاد المرشح نبيل القروي وإيداعه السجن بدون وجه حق، كما أعلنته محكمة التعقيب هذا الأسبوع قد زيف المسار الديمقراطي وشوه المناخ الانتخابي. ومن الغريب أنه إلى يومنا هذا لم يقع أي تحقيق في هذا الإفراط في استعمال السلطة لعرقلة هذا المترشح، ولا تحميل الطرف الذي قام بذلك أي مسؤولية.

إن تنظيم الانتخابات في هذا المناخ أدى إلى تصدع المشهد السياسي، مما جعل حزب النهضة الإسلامي يحرز المرتبة الأولى رغم فقدانه عديدا من ناخبيه، أما السلفيون التابعون لهذا الحزب بشقوقهم المختلفة كائتلاف الكرامة وحزب الرحمة فقد أحرزوا أكثر من 21 مقعدا في البرلمان. أما اليسار فقد انقرض تماما من المشهد السياسي ووقع ضحية خلافاته وانقساماته الداخلية.

الانتخابات التشريعية ليست إعلانا عن ثورة صندوق بقدر ما هي تقهقر ورجوع بالبلاد إلى مربع الإسلاميين الذين صمتوا أثناء عهدة الباجي قائد السبسي رغم اختلافهم الأيديولوجي معه على مسائل عدة كالمسألة السورية والمطالبة بالمساواة في الميراث بين الجنسين، وبالقضاء على حكم الإعدام.

وللاحتماء من خطر التشكيك في المسار الديمقراطي، يقع إطلاق سراح نبيل القروي قبل الدور الثاني بيومين ليلحق بالسباق في انتخابات قد حسمت.

أما حركة النهضة التي وجدت قيس سعيد حصان طروادة أو "العصفور النادر" كما يحلو لها تسميته، فقد سخرت كل إمكاناتها المادية والمعنوية من أجل صعوده إلى سدة الحكم، وذلك عبر تشويه نبيل القروي بكل الطرق في الأماكن العامة وفي الفضاء الافتراضي عبر صفحات مدفوعة الأجر تشيطن هذا الخصم السياسي وتنعته بأقبح النعوت وتلحق به أبشع التهم، فهو "زعيم عصابة" "مافيوز"، "مهرب"، "نازي"، أما عن الضربة القاضية له فهي اتهامه بأنه وكيل "الموساد".

لا يخفى على أحد أنه في عالمنا العربي إذا أردنا أن نجهز على شخص فيكفي أن ننعته بأنه عميل للصهيونية وللموساد، وأن نخرج له ورقة "إسرائيل" حتى تسقط كل أوراقه وننتصر عليه بالضربة القاضية. وقد وضع الإسلاميون مجانا على ذمة ناخبي قيس سعيد (سيارات، سكن، حافلات، وجبات غذائية..)، كل الإمكانات وقع تسخيرها من أجل أن يفوز مرشحهم، يبدو أن لا شيء يمكن أن يحول بين الناخبين والأحزاب الدينية التي تجعل من انتخابها في ذهن الناخب بمثابة الواجب الديني فضلا عن كرمها الدنيوي.

أما عن المناظرة التي نظمت ليلة قبل الصمت الانتخابي للدور الثاني للانتخابات الرئاسية فقد كانت في استديو رائع التصميم تملؤه الإضاءة يذكرنا باستوديوهات "ذي فويس"، اجتمع فيه صحفيان مركزان على الكرونومتر الذي أمامهما كأنهما يديران الألعاب الأولمبية، يوزعان الكلمة على مترشحين يظهر جليا أنهما لا دراية ولا علاقة لهما بالمسائل السياسية ولا الشأن العام، لا يقترحان أي برنامج وأية رؤية سوى شعارات رنانة وعناوين طنانة بالنسبة لقيس سعيد، وتركيز كلي من جهة أخرى على محاربة الفقر كأولوية قصوى بالنسبة لنبيل القروي.

كانت "مناظرة تاريخية" لا نرى فيها لا حوارا ولا تقاطعا بين برامج المترشحين ولا تفنيدا لحجج، بل الأغرب من كل ذلك هو الانعدام الكلي للبرامج وقلة معرفة كلا المترشحين بأمور الدولة وبمؤسسات السلطة السياسية.

لا أحد فيهما تحدث عن مستقبل تونس، تكلم قيس سعيد مستعملا لغة عربية فصحى ومجازات، وكأنه في مجلس أدب للتأثير على من يذهل أمام الشكل دون المضمون، واستعمل نبيل القروي اللهجة الدارجة التونسية البسيطة التي يفهمها عامة الناس، ولكنه كان مضطربا كلما اقتضى الأمر استعمال مصطلحات فنية وتقنية وكأنه سعى إلى منع اللسان من النطق بلغة أجنبية حتى لا ينعت بالمتغرب.

أما اللحظة المثيرة للسخرية في هذه المناظرة هي لما سأل الصحفيان المرشحين عن مصادر تمويلهما لحملتهما، خاصة وأن المرشح نبيل القروي قد جمدت أمواله، فكان جواب نبيل القروي أن والدته هي التي منحته "شيك" للتقدم للرئاسيات، أما قيس سعيد فقد أكد لهما أنه قد باع منزل والده.

إنه أمر مضحك للغاية، وعلينا أن نتوقع كمواطنين عند انتخاب أحدهما أنه يوم سيقع عجز في الميزان التجاري سيضطر لبيع أملاكه.

كنا ننتظر أن يسألا على قضايا الساعة: أزمة السياحة، نسبة البطالة، نزيف الهجرة غير الشرعية وهجرة الكفاءات، عجز الميزان التجاري، السقوط المدوي للدينار التونسي.

هذه هي القضايا العاجلة للشعب التونسي، ولكن يبدو أن "إسرائيل" حسب هذه المناظرة هي أوكد الأولويات بالنسبة لشعب تنمو فيه نسبة الفقر كل يوم، وتعم فيه الفوضى نتيجة لفشل السياسات المتعاقبة منذ 2011.

كان السؤال في هذه المناظرة حول إمكانية التطبيع مع الكيان الصهيوني، مما يجعلنا نشعر وكأن الجولان هي في شمال تونس مع الحدود الجزائرية، وكأن رام الله هي على مقربة من بنقردان على الحدود الليبية، وكأن السلطة الفلسطينية تنتظر جوابا عاجلا بعد المناظرة لتبدأ قصفها على الكيان الصهيوني. وبعد ذلك نرى كلا من المرشحين يستميتان في الدفاع عن القضية الفلسطينية ويعدان وعد "الشرف" بتجريم التطبيع مع إسرائيل وكأن 6 ملايين إسرائيلي سيفدان غدا على مطار تونس قرطاج بمجرد تولي أحدهما الرئاسة.

أما اللحظة الدالة على انعدام الثقافة والتجربة السياسية فهي اللحظة الأخيرة من المناظرة حين يستشهد قيس سعيد بفيلم يوسف شاهين "العصفور" كرمز "للعصفور الذي يطير من قفصه باحثا عن الحرية" إنه الصمت المطبق، باعتبار أن الشريط يتحدث عن هزيمة العالم العربي سنة 1967.

عندما نريد طمأنة الناخب التونسي الذي يعاني الويلات نقول له "لا تخف ولا تحزن إن النصر آت، سنحارب إسرائيل"، وسينام هذا الناخب نوما شافيا عافيا ويستيقظ سعيدا وإن كان بطنه خاويا بما أن الخلافة قادمة لا ريب فيها وسيعم الرخاء.