سلطان الحويطي

الكيان البدويتمدن

الاحد - 06 أكتوبر 2019

Sun - 06 Oct 2019

ذات يوم تساءل «زرادشت»: كيف يصل الإنسان إلى الكمال؟! وعندما بلغ عامه الثلاثين حمل جسده المتعب وزم إرادته وهاجر باحثا عن الحكمة، سلك طريقة إلى الجبال البعيدة حيث العزلة والهدوء، أقام هناك عشرة أعوام كاملة، يمتطي الفجر الذهبي كل يوم يصحبه في رحلة تأمل وتجل يتمازج فيها مع الرمال، يعانق السحب، يغرس أفكاره بين الأشجار، وما إن يحل المساء حتى تفارقه ذاته الحالمة في لحظات كثيرة تذهب بعيدا نحو السماء تقفز من نجمة إلى أخرى ثم تعود إليه كشهاب محترق يؤجج تساؤلات وجودية ملهمة في داخله.

وبعد أن حاز الحكمة قرر العودة إلى المدينة وفي الطريق المتدلي من سفح الجبل صادفه الشيخ الحكيم وقال له بلهجة اللائم: لقد استيقظت يا «زرادشت» فلماذا تعود للنائمين؟!

«زرادشت» وجد الحكمة، وجد الطريقة التي يكتمل فيها الإنسان، عرف أن العيش بين أحضان الطبيعة يمنح الإنسان قدرا هائلا من النقاء والشعور الصادق بالذات الناضجة.

كذلك البدوي المرتمي بين أحضان الصحراء هو الآخر قطف ثمار حكمته، فبينما يجثم الليل على جسد الصحراء، ويلوح القمر متألقا في السماء ينسج ضياءه على جلباب الظلام، تتجلى نفسه وتتمازج مع الأرض، والسهول، والجبال وتغدو قطعة متوحدة مع الطبيعة.

وهذه التجربة الفردية دائما ما تنتج ذاتا متزنة قد تصل حد الكمال! تتحصن بالجماعة والعشيرة لتمنحها القوة المتمثلة في الضوابط والقيم المقدسة التي تقف حارسا على الفضيلة وليدة الصحراء.

يحيا ذلك الكيان البدوي بعيدا عن ضجيج الحضارات كي يحافظ على كرامته، وينعم بحريته، ويمارس مكارم أخلاقه دون قيد، فكل الظروف تتهيأ له ليصبح كتلة متحركة من الأخلاق الكريمة! ولكنه لم يصمد طويلا أمام ما شهده العالم مؤخرا من متغيرات متسارعة، وثورات صناعية، واقتصادية، وفكرية، جعلت الناس تهجر فضاءات الطبيعة وتحصر وجودها في أماكن محدودة لتشكل تجمعات مدنية من كل الأطياف تخضع لضوابط وقوانين حديثة تتناسب مع مفهوم المكان وتوفر كم لا بأس به من الراحة والأمان، فذاب ذلك الكيان البدوي وانصهر في هذا المزيج الجديد، وأصبح محشورا بين التمدن والبداوة، غير قادر على مجاراة الحداثة ولا العودة للأصالة، فلم يجد أمامه في ظل هذا التأزم سوى افتراش الماضي التليد! ليصبح بعد ذلك كتله متحركة مضطربة بين العقل والعاطفة والحاضر والماضي لديه معايير جديدة للحياة وأسباب جديدة للبقاء!

تأتي هذه الازدواجية بعد أن كان يقف كطود شامخ في صحرائه، وما إن هبت عليه رياح الحضارة، وعصفت به أعاصير العولمة، حتى أصبح مكبلا بمصالح ونظم وتعاملات لم يستطع الفكاك منها، وانساق خلفها لتنبت في صدره شخصيات متعددة أنتجت ذاتا متأرجحة، جعلته يمارس حياته باضطراب بعد أن عجنت ملامحه بصخب المدينة، ولطخت روحه بالأسواق المتهدلة والمباني المتطاولة، والمصابيح الذابلة على جانبي الطريق لتبدو البداوة وكأنها مرحلة تجاوزها التاريخ.