محمد أحمد بابا

تجسسوا!

السبت - 29 يونيو 2019

Sat - 29 Jun 2019

للمعلومة والخبر مكانة عالية في إقامة درع ضد المستجدات غير المرغوبة أو المستحدثات المشبوهة، ويتفاوت الباحثون عن هذه الخيوط من الأحاديث والمعطيات المعلوماتية في طرق الحصول عليها عبر قنوات أو وسائل ممنوعة في الأصل، مسموح بها في أرض الواقع عالميا ومحليا.

والنظرية السائدة في الدولة الحديثة بعد سقوط حصون الخلافة والإمبراطوريات تحتم على الدول أن تنشئ أجهزة خاصة لجلب هذه المعلومات والأخبار وإفراغها في صفائح الأرشفة والتخزين، ومن ثم الربط بينها لاتخاذ القرار المناسب حيال ما نقل على ألسنة الجواسيس والمخبرين.

لذلك يعتبر مفهوم المخابرات أو الاستخبارات مغرقا في التعقيد والأهمية في الوقت نفسه لدى السياسيين والسائسين دولا وشخصيات، في حين أن مفهوم المباحث أو البحث الجنائي والشرطي يقترب من ذلك حثيثا عند منفذي القانون والعاملين في مجال المحافظة على الأمن، وتأتي الدبلوماسية المتمثلة في سفارات الحكومات وقنصلياتها لدى الغير مظنة لكثير من الريبة والشك في مصطلح المراقبة والتجسس.

والقضية المزمنة في تلميحي لهذا المنحى هي هوس الإجراءات العالمية بأجهزتها للحصول على معلومات دون تصريح من صاحب الشأن الذي في الأصل هو إنسان كامل الأهلية للمحافظة على مقتنياته الشخصية من أخبار تخصه دون غيره، ومع ذلك الأصل الذي ترفع مواثيق حقوق الإنسان والهيئات الأممية شعاره ومكانته إلا أن الظروف ـ كما يقولون ـ قد تلزم القوانين بسن مخارج تخول الدول بكسر حاجز الخصوصية عند الخطر.

ومضى زمن بعيد على خوف استحكم من قلوب الناس وتفكيرهم عند حديثهم أو كلامهم أو حتى إقدامهم على أية خطوة للأمام، نتيجة ما زخرت به تلك الحقب الماضية من مرافقة المخبرين للشعوب في البأساء والسراء وفي النوم والاستيقاظ والخلوة والإنجاب، وصار الشك هو أساس الاختبار لكل من نلتقي بهم أو نقابلهم أو يعرضون خدماتهم أو صداقتهم أو حبهم.

اليوم وضمن إفرازات التفاعلات المنصرمة بهذه الطريقة المبغوضة والمفروضة، سار الفرد نحو تقديم المعلومة طائعا مختارا، دون أن يكلف أجهزة البحث أو الاستخبارات وقتا أو ذكاء لمعرفة ما يدور في بيته أو عمله أو خاطره، فقطع الطريق الطويل الذي كان يعيش منه كثير من العاملين سرا وجهرا، ومع ذلك بقيت مؤسسات هذه الأغراض في العالم قائمة متضخمة دون عمل مضن سبقتها فيه مثيلاتها.

ولا تخلو مهمة يقوم بها الإنسان اليوم عمليا أو معنويا من معلومات مسبقة يقدمها عن نفسه تتيح أخبارا مجانية لمن يقرؤها أو يطلع عليها، سواء كان يعنيه الأمر أو فضولي الاستطلاع، وهي أيضا تتيح مساحة عريضة لاستدرار معلومات مستجدة عن ذات الفرد في المستقبل لمن يدعوه عمله لمزيد من التصنت أو تتبع الأخبار من نقطة لأخرى قد لا تنتهي إلا بوفاة الإنسان واستقرار سجله في حاسب إدارة الوفيات.

لكن الطمع الإنساني في الجديد والفضائح والمعرفة لم يقتصر عند حد المعلومات التي يبذلها الواحد منا طواعية، مفترضا أن سريتها ستكون هي أسلوب التعامل معها عند المسجلين، بل امتد السمع وتطاولت الآذان لكثير من أساليب التجسس الحضاري والتكنولوجي، وشمل كل أعضاء الجسد ومقاصد الحياة، ليأتي الدور في الحركة المعلوماتية للعصر الحديث على تحليل الأخبار والمعطيات وإعطائها شكلا آخر غير ما هي فيه أصلا.

وفي الحقيقة أن ما كان آباؤنا وأجدادنا يسمونه (سرا) في الأزمنة البائدة لم يعد له مكان اليوم تطبيقا وتصنيفا، سوى ما يحتفظ به القلب ولم تفعله أو تترجمه الجوارح، وقليل هوَ، ومصداق ذلك لو نظرت إلى كل المعلومات المسجلة عنك في جهة خدمية على مستوى مدينتك الصغيرة فقط لاكتشفت أن غسيلك منشور في كل سطوحات مقارهم.

ولو تعقبت كل تاريخك الالكتروني في تعاملك مع شبكة الانترنت بمعلومات صحيحة أو زائفة لعثرت على كم هائل من الأخبار عنك وددت في هذه اللحظة أن لو لم تكن متوفرة للغير، لكن سبق الحفظ الحذف.

ومن الممكن استنتاج أن هذا التحول المهول في - التجسس الاختياري - هو ما اهتدى إليه عقل الإنسان الذي يطور أجهزة التحكم، فاختار إغراء جميع بني البشر بأصناف وأشكال وأنواع من وسائل الاتصال والتدوين والتسجيل أرضيا وجويا وبحريا حتى تكون المعلومة هي ذات حبات الإكسوجين الذي نستنشقه صباح مساء ولا تغيب الأخبار عن الذي يريد أن يعرف أكثر.

والمشكلة في التخمة الكاتمة على الأنفاس من أثر البحث والتفتيش عن المعلومات هي ما يسيطر على الفضوليين والمتطفلين من شعور بأهمية غير المهم وخطورة غير الخطير، فتتولد لديهم قناعات واختيارات بأن الاستفادة من تلك المعلومات واجب إنساني يستخدمونه في أغراض أربكت راحة الإنسان حتى في غرفة نومه.

albabamohamad@