عبدالله الأعرج

الابتدائية قبل الدكتوراه!

الاحد - 26 مايو 2019

Sun - 26 May 2019

لا يختلف اثنان على أن المعرفة قوة «knowledge is power» ولأننا متفقون على هذا فإننا نريد أن نتفق أيضا على أن المعرفة تدريجية، فلا يمكن القفز إلى تعلم المعادلات والمتراجحات في الرياضيات مثلا قبل تعلم الأرقام وأبجديات الحساب، ومثلها اللغات والعلوم وباقي فروع المعرفة، كما أنه لا يمكن فرض التفكير الناقد critical thinking أو الأساس المنطقي للحوار بعد مرور 12 عاما من تعليم لا يعزز هذا الجانب بشكل ممنهج، ما خلا ممارسات فردية تقع أحيانا بين بعض المعلمين والمتعلمين.

ومن اللافت اليوم أن الحديث عن التعليم العالي بات موضة العصر وفاكهة المجالس، ومحل التراشق والجدل الصحي والعقيم على حد سواء في ظل غياب شبه ملفت حول نقاشات أسس تعليم النشء، بدءا من مرحلة ما قبل المدرسة وصولا إلى المرحلة الثانوية.

هذا النمط من الجدل أحدث بالمحصلة تراجعا في النقاشات البناءة حول مواضيع وهموم التعليم العام المادية الكبرى، مثل: تعلم أصول الحساب وفهم أبجديات الكتابة والقراءة ووسائل الجذب والتشويق للمحتوى التعليمي والجو المدرسي العام وهندسة حجرة الدراسة وإعداد المعلم وسيكولوجية الطالب، مقابل النقاشات الماراثونية والصراعات البيزنطينية المعنوية حول قيمة الدرجة العلمية للدارس وبرستيج بلد البعثة وأصالة الجامعة وعدد المبتعثين من القسم والمناصب الإدارية الأكاديمية لأعضاء هيئة التدريس، والمبادرات القطنية والكرنفالات والأعراس الجامعية وغيرها، مما يدعو وبقوة للتوقف فورا ومعاودة حساب أولويات المرحلة من قبل المنتسبين لقطاع التعليم وتقديم الأهم قبل المهم والأكثر إلحاحا قبل المستحب!

لقد بات من الواجب علينا ونحن جميعا ننتظر بشغف مخرجات رؤية الوطن 2030 أن ندرك أن أولويات كثيرة ومثيرة على حد سواء يجب أيضا أن تتصدر المشهد التعليمي، ومنها الاستثمار الأمثل في عقول الأجيال الرقمية القادمة، والتي فتحت أعينها على دنيا تختلف كما ونوعا عما ألفته الأجيال السابقة، بل والتي لم تعد تتقبل التعلم بالطريقة التي تقبلها الأسلاف من حيث المحتوى والطريقة ونواتج التعلم المتوخاة.

اليوم نحن في أمس الحاجة لتعليم ابتدائي مقنع ينمي قيم المشاركة في صنع المحتوى بين المعلم والمتعلم، ويشارك في الوصول إلى رضا بين الطرفين مبني على الإقناع لا الفرض، نحن أيضا بحاجة لإعادة ربط أهداف التعليم باحتياجات التنمية منذ اليوم الأول الذي يذهب فيه الطفل إلى روضته أو مدرسته، بحيث يترقى ذلك الطفل ويتدرج عاما بعد عام وهو في كامل تعبئته الفكرية بثوابت وقيم المواطنة الصالحة وأساسيات الفكر المعتدل وأمهات المعرفة الصلبة التي تخلق منه باحثا مبدعا أو مفكرا موهوبا أو مخترعا ملهما في فترة قادمة لا مفر منها من حياته العلمية.

من المهم أيضا أن نعاود هندسة عقول النشء الجديد في المراحل المبكرة للتعليم ليتخلص من العقد التي وقعنا فيها في الماضي، ومنها النظر إلى الشهادات العليا على أنها هدف في ذاتها، والمزاحمة على تخصصات لسهولتها رغم عدم الاحتياج لها، وازدراء العمل المهني رغم مِحكّيته، والتطلع للعمل دوما في مكان قرب الأهل، والعزوف عن وظائف القطاع الخاص بدعوى غياب الأمان الوظيفي، وانفصال العلم النظري عن التطبيقي، وتحوير المفاهيم حول قيم العمل التطوعي، وغياب ثقافة الشكر لمقدمي الخدمة، بدءا من العامل الشخصي إلى المضيفة في الطائرة والنادل في المطعم والحلاق والبائع وسائق الحافلة، واحترام ممتلكات الدولة كونها ملكا للجميع، وأن العبث بها إساءة للجميع، وتنمية ثقافة احترام الذوق العام في الملبس والحديث والتصرفات، وتنمية مهارات الاتصال والتواصل الإيجابي، وتغيير مفاهيم المفاخرة على أساس الأصل والنسب والمال والجاه، وتعزيز قيم التعايش مع الآخر بغض النظر عن أيديولوجياته ودينه وبلده.

ولأن بدايات التعليم تماما مثل إكسير الحياة فإن الإبداع في تقديمها والتفنن في بلورة أهدافها سيستمران في إصلاح ما أفسده الإنسان عبر تاريخه الطويل على وجه هذه الأرض، ولذا فإنه من الواجب التحرك الفوري نحو هذا المبتغى من خلال استهداف ذلك العقل الصغير للطفل والطفلة اللذين لم يدخلا المدرسة، ثم مواصلة الاستثمار في المرحلة الابتدائية ثم التي تليها حتى تنقضي سنوات التعليم العام بكل حرفية، وحينها فإن التعليم العالي سيكون في كامل جاهزيته للانطلاق بطفل الأمس إلى آفاق من الجمال والكمال لخير الإنسان والأوطان في كل زمان وفي أي مكان.

dralaaraj@