حذامي محجوب

دبلوماسيون في الذاكرة

الاحد - 12 مايو 2019

Sun - 12 May 2019

لما كانت البلاد التونسية تحت الاستعمار الفرنسي، ذهب الحبيب بورقيبة زعيم الحزب الدستوري التونسي سنة 1954 إلى مدينة نيويورك آملا أن يقع عرض القضية التونسية أمام المجتمع المدني وتدويلها في الأمم المتحدة، لكن حراس مبنى الأمم المتحدة منعوه من الدخول باعتباره لا يحمل أي صفة رسمية تخوله حضور اجتماعات الأمم المتحدة، وباءت كل محاولاته لإقناع الحراس بالفشل، وشاءت الصدفة السعيدة أن تتزامن محاولة دخول الحبيب بورقيبة إلى مبنى الأمم المتحدة مع وصول الوفد العراقي الذي كان يترأسه الدكتور فاضل الجمالي بصفته وزيرا للخارجية آنذاك الذي اهتم بالأمر وتساءل عما يحدث فور وصوله، فأخبره الحراس بأن رئيس الحزب الدستوري التونسي الحبيب بورقيبة يريد الدخول دون صفة لقاعات اجتماعات الأمم المتحدة لذلك وقع منعه.

وفي تلك اللحظة ودون أدنى تردد نادى وزير الخارجية العراقي الحبيب بورقيبة وقال له "أنت ستدخل إلى مبنى الأمم المتحدة بصفتك عضوا في الوفد العراقي"، ووضع له شارة على صدره كتب عليها "الوفد العراقي"، وقال له "لن يستطيع الآن أي أحد منعك من الدخول إلى قاعة الاجتماعات، لك الآن صفة، أنت عضو في الوفد العراقي".

دخل الحبيب بورقيبة بكل اعتزاز وفخر مع الوفد العراقي، وأخذ الدكتور فاضل الجمالي الكلمة بصفته رئيس الوفد العراقي ثم بعد ذلك قال "سأحيل الميكروفون إلى أخي الحبيب بورقيبة للتحدث باسم دولة تونس الحرة"، فساد صمت رهيب في القاعة وغادر الوفد الفرنسي قاعة الاجتماعات احتجاجا على ما فعله رئيس الوفد العراقي.

تسلم الحبيب بورقيبة الميكروفون والتقط اللحظة التاريخية، فألقى خطابا حماسيا استمات فيه في الدفاع والذود عن حرمة وطنه ضد المستعمر الفرنسي الغاشم، فاستحسنه الحاضرون ووقفوا جميعا يصفقون له. وبعد انتهاء الخطاب توجه الحبيب بورقيبة بكل لباقة إلى الدكتور الفاضل الجمالي، وقال له "لا أنا ولا تونس سننسى لك هذا الموقف". وفي سنة 1956 أي بعد سنتين فقط من هذه الحادثة حصلت تونس على استقلالها من الاستعمار الفرنسي بفضل كفاح الشعب أولا، وكذلك بدعم الأشقاء العرب، إذ لا ننسى أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالعزيز آل سعود قد قدم للحبيب بورقيبة أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية سنة 1951 دعما معنويا وكذلك ماليا لا بأس به كان منطلقا لتسليح الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي ودعم جيش التحرير.

كما مكنت هذه المبادرة الجريئة والشجاعة التي أقدم عليها الدكتور فاضل الجمالي من تدويل القضية التونسية.

وبعد سقوط الحكم الملكي في العراق سنة 1958 دارت الدوائر وصدر بحق الدكتور فاضل الجمالي حكم بالإعدام بوصفه أكبر رموز النظام الملكي في العراق، لأنه شغل عدة مناصب في النظام السابق ومنها منصب رئيس الوزراء، فتدخل الرئيس الحبيب بورقيبة آنذاك بكل ما أوتي من وسائل مناشدا الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم بالعفو عن الدكتور فاضل الجمالي، والسماح له بمغادرة العراق إلى تونس، وتبعت مناشدة بورقيبة مناشدات أخرى إقليمية ودولية جميعها تطلب الإفراج عن وزير الخارجية والوزير الأول الأسبق العراقي الدكتور الجمالي للسمعة الطيبة التي كان يتمتع بها والإشعاع الدولي الذي يحظى به، فهو من مؤسسي الأمم المتحدة وهو الذي وقع نيابة عن الحكومة العراقية الميثاق سنة 1945. فلم يملك الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم سوى الاستجابة لهذه المناشدة الدولية، وسمح بمغادرة الدكتور فاضل الجمالي بغداد إلى تونس، فمنحه الحبيب بورقيبة الجنسية التونسية، وأولاه عناية خاصة وفاء لموقفه المساند لتونس وقت الضيق وزمن الجمر، وعرض عليه أن يعيش معززا مكرما في بلده الثاني تونس، وأن تمنحه الدولة التونسية راتبا عاليا، فأبى الدكتور الجمالي إلا أن يكسب عيشه بعرق جبينه، فعين في منصب أستاذ فلسفة التربية في الجامعة التونسية إلى أن وافاه الأجل المحتوم سنة 1997، وقد أطلق الحبيب بورقيبة على أحد الشوارع الكبيرة في العاصمة اسمه تخليدا لذكراه.

تلك هي مواقف الدبلوماسية الحقيقية زمن الخمسينات، إنه عهد دبلوماسية ذهبية ومواقف خالدة لبعض القادة والزعماء السياسيين الذين كانوا يقفون إلى جانب بعضهم. مواقف رجولة وإباء وجرأة سياسية تخدم القضايا العربية، فهل تشرق الشمس من جديد على الأمة العربية؟