محمد أحمد بابا

من أجل ذلك لا أحب الفول

السبت - 11 مايو 2019

Sat - 11 May 2019

ما لذ وطاب من المأكولات له حظ من شغف القلوب والنفوس والأمزجة والاهتمامات، والموائد المتنوعة تشغل بال كثير من محبي الاستمتاع بمباهج الحياة بطريقة لا حرج فيها. والسعي في الحصول على الطعام الطيب أمر عادي في المجتمعات والمطابخ ذات الجهات الأربع.

فأن تأكل فهذا حقك الشخصي، وأن تشعر بالجوع فتلك طبيعتك الإنسانية، وأن تحرص على أن يكون أكلك شهيا أو دسما فهذا شأنك وتلك بطنك، وأن يكون لك طقوس في موائدك وأوقات جلوسك أو وقوفك لتناول ما تريد فهذا أيضا من صميم خصوصياتك.

لكن أن يحدث عراك (ومضاربة) بالأيدي تتطلب تدخل الشرطة ورجال الأمن بين اثنين بسبب (طابور) الانتظار عند بائع (الفول) قبيل المغرب في رمضان ـ كما اعتدنا في كل عام أن نقرأ من أخبار في الصحف عن مثل ذلك ـ فهذا أمر يدعو لتدخل أقلام وندوات تثقيف وخطب وعظ وإعادة تأهيل.

ليس التدخل السريع هذا الذي أنادي به لكون التشابك بالأيدي يحصل بين اثنين في شوارعنا، فهذا أمر يحصل في العادة بين (من نزغ الشيطان بينهما) ولو كانا في المسجد الحرام، وليس كذلك حرصي على الكتابة في هذا الشأن لأنهما في رمضان شهر الصيام عن الرفث والفسوق والعصيان، فمن الناس من لا تظهر بطولاته ومهارته في سوابق اللسان وفصيح السب والشتم وسرعة الانتقام إلا في رمضان، معولا على أنه صائم معذور لقلقه وفراغ بطنه قبل قلبه، وليس يعنيني عدم احترام النظام والاصطفاف (والدور) للوصول للهدف مهما كان، فهذه عادة مستشرية.

ما أغراني بالكلام هنا هو أن تكون بطنك سببا في شقائك وقائدا لك لتجيب عن أسئلة المحقق في (المخفر) الذي ستتوجه إليه بعد هذا العراك الأسطوري، فأي ملامح لوجه فيه شيء من إحساس سيتواجد معك هناك؟ وأي عذر فيه رائحة من إقناع سترفع به صوتك الذي علا في ملحمة (الفول) ولا يكاد يبين في حضرة السائلين والفضوليين والمتطفلين؟ وأي (فول) هذا الذي لم تستطع أن تقاوم رؤية (جرته) تسكب عيونها الذهبية في آنية من سبقوك في (الطابور) وتخشى أن يصلك (الدور) وقد قرع العامل جوانبها بمغرفته الطويلة لتجيبك هي قبله أنها ذات جوف خال مثل جوفك، فتعود للبيت بدون (فول) لتجد من يبادرك بقوله: يا.. للهول!! فطور من غير فول!!

ما أعلمه ويعلمه كثير من الخلق أن الصغار في بيئتنا قد دأبوا على الانصياع لتربية هامة من آبائهم وأمهاتهم تتعلق بموضوع الأكل وتناوله والتعبير عن الإحساس بالجوع، فقد كان النهم والإقبال على الطعام بشراهة واهتمام أمرا مرفوضا وغير لائق اجتماعيا، حتى غدا موضوع الطعام يستخدم غالبا في التعبير عن الكرم وبذله للناس وإطعام الضيوف.

بل إن التاريخ ساق لنا اعتبار التابعين الشراهة والاهتمام المبالغ فيه بالأطعمة والأكل في الطرق العامة مزريا بالمروءة ورادا للشهادة، فقلما تجد الأعيان أصحاب المروءات يتجاذبون حديثا حول الأطعمة، ولا يتناقشون حول حصولهم على قدر من طعام البطون، ودرج مثل عامي على الاستنكار (ما همّكْ إلا بطنك؟).

لا أتذكر رغم شهرة الطعام الرمضاني (الفول) أنني - صغيرا أو كبيرا - وقفت في (طابور) أنتظر قسطي من (جرة الفول) تلك، لا لشيء سوى لأنني من تركيبة نمطية لا أتمنى أن يراني من يعرفني واقفا في (ازدحام) أنتظر طعام بطن.. فما بالك بشجار وعراك!

قد تكون تلك نظرة مثالية معقدة، وسأرضى أنا بهذا الوصف طالما لي القدرة على التمسك بهذا الجانب الذي يكفل لي التفكير فيما هو أهم من مطالب بطني، والغريب في مثل هذه الحوادث والتزاحم أن ليس له عذر من جوع أو قلة (فوالين)، بل هو التقليد والعادة.

albabamohamad@