مرزوق تنباك

أجدادنا العرب أدبتهم الصحراء

الثلاثاء - 30 أبريل 2019

Tue - 30 Apr 2019

لا أعني بأجدادنا أولئك القوم الذين تلقوا دعوة الإسلام وآمنوا به وانطلقوا في مشارق الأرض ومغاربها تاركين وراءهم بلادهم حتى بلغوا بدولة العرب والإسلام في شرق الأرض سور الصين العظيم، ولا أولئك الذين اتجهوا إلى شمال أفريقيا حتى عبروا البحر ونزلوا غرب أوروبا وأخضعوها لسلطانهم، ولا أعني ذاك المجاهد الذي وقف على ساحل المحيط الأطلسي وأقسم أنه لو يعرف أن وراءه أرضا تسكن وبشرا يدعون إلى الإسلام لعبر إليهم ليبلغهم ما لديه وما يؤمن به، ولا أعني بأجدادنا الذين نفخر بهم من أنشؤوا الحضارة العربية في بغداد ومصروا مصر وما وراء النهر وما دونه حيث دونت الحضارة العربية الإسلامية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس حتى هذه اللحظة، هؤلاء القوم وإن حسن الفخر بهم وعظم تاريخهم وكرمت أعراقهم ليسوا هم من أعنيهم وأفخر بهم وإن كانوا يستحقون الفخر والاعتزاز.

لكنني أعني بأجدادي الذين أفخر بهم غير من فتحوا البلاد وسادوا العباد، أفخر بقوم استطاعوا أن يعيشوا على أديم الجزيرة العربية وأن يلتصقوا بصحرائها ورمالها ويحتملوا قساوة صيفها وتجمد شتائها، أطالوا بها المقام وعاشوا فيها أقوياء كراما اختاروا أن يعيشوا فيها طوعا لها وحبا بها، يحتملون شظف حياتها وقساوة مناخها واضطراب أجوائها، يبقون في المفازات لا يجدون الماء الذي هو سر الحياة إلا في عناء ومشقة.

كانت رمالها متاهات مخيفة وجبالها وعرة منيفة، ذكرني حياة هؤلاء القوم والتقدير لهم والفخر بهم مسيرة يوم في أمس القريب بين الدمام والرياض في منتصف النهار وفي منتصف الطريق ووسط رمال الدهناء أخذت جانبا وابتعدت قليلا عن الطريق المعمور حتى أحاطت بي وبمن معي الرمال الجرداء التي لا ترى فيها نباتا ولا تسمع فيها أصواتا ولا أثرا لحياة، كنا في منتصف النهار وارتفاع الشمس وانعكاس أشعتها على الرمال الحمراء فأصابنا من الوحشة والخوف من المهالك ما تكاد تنصدع له القلوب، تصورت في هذا الجو المرعب من الوحشة والعزلة وكأن السماء قد انطبقت على الأرض، هنا تذكرت أجدادنا الذين كانوا يعيشون هذه الأجواء قبل ألف وستمئة عام، يوم لا سيارة تسير ولا طيارة تطير ولا هاتفا جوالا ولا وسيلة حل أو انتقال، كان أجدادنا يصارعون الصحراء وعواصف الأجواء، يسلك الرجل منهم الطريق وحده ويقطع المسافات بمفرده ترافقه الذئاب وتشاركه الطعام والشراب، قد لا يحمل غير عصاه ولا يرى في الطريق سواه.

هذا الجلد والصبر والتحدي للطبيعة القاهرة هو محل الفخر بهم والتذكير بأيامهم، عاشوا فيها كراما يأنفون الضيم ويستشعرون الحرية ويجالدون في سبيل أن تحيا في نفوسهم القوة والعزم والاكتفاء بالقليل حتى لا يغيرهم الكثير ويغريهم بما يمكن أن يسلب حريتهم أو يصادر كرامتهم أو يضعف قوتهم، بقي هؤلاء الأجداد عظماء في حياتهم لا تذلهم الرغبات ولا تستدرجهم الشهوات.

يأنف أحدهم أن يسمع كلمة جارحة، أدبتهم الصحراء بأدب العزيمة والتحدي ولم يخضعوا لسلطان القوة التي كانت تحيط بهم، حتى أذن الله أن يأتي من غير وجه التاريخ وساد الدنيا.

أما اليوم فقد تغيرت الحال ودالت دولة أولئك الرجال، وخلف من بعدهم خلف فاض في أيديهم المال وسال من صحرائهم الذهب الأسود فاتسعت الشهية لجمعه والزيادة منه والتفكير فيه، واحتاج إليهم بنو الأحمر والأصفر، ولانت الحياة فأحبوها وأمرعت الصحراء فغرسوها بالمال والرغبة بطول الآجال، وثمن ذلك ما هم فيه من رغد العيش وحب الدنيا فلعل قوة المال تعوض ما فقد من صلابة الرجال وتعود الصحراء معطاءة في كل حال.

شكرا لأجدادنا وشكرا لصحرائنا في شحها وسخائها وفي ثروتها وما وراءها.

Mtenback@