عبدالغني القش

المسلسلات التاريخية.. وغياب المرجعية!

الجمعة - 26 أبريل 2019

Fri - 26 Apr 2019

تتربع القنوات الفضائية على عرش الوسائل الإعلامية من حيث الأهمية، وتعلو فوق منصة التتويج، وتحوز مكانة سامقة بين كل الوسائل الإعلامية الأخرى.

ومن المسلم به أن ما تبثه هذه القنوات الفضائية بحر عرمرم ذو أمواج متلاطمة، منه الغث، ومنه السمين، وقد أضحت في زماننا وسيلة هامة لتلقي المعلومات والمعارف عند جمهور الناس وسوادهم.

ولن أتوقف عند كل ما تبثه هذه القنوات، لضيق المساحة، ولكن سأتوقف عند ذلكم النوع الهام والمؤثر من البرامج وهو «المسلسلات التاريخية»، وموضوعاتها القديمة المتجددة المثيرة للجدل، وقد باتت مؤخرا من أكثر المسلسلات عرضا وإنتاجا، خاصة في شهر رمضان، وقد قربت أيامه المباركة ولياليه العابقة بالروحانية، في ظل صمت مطبق من الجهات المعنية بتاريخنا توثيقا وحفظا، ولا أعلم سببا يبرر صمتها ويعذرها في ابتعادها عن الساحة الإعلامية، وإحجامها عن التعليق نفيا أو إثباتا، وهي الأكثر التصاقا بالتاريخ وقربا من أحداثه ومعرفة بمجرياته!

وهذه المسلسلات تحكي سيرة علم من الأعلام في الإسلام، من مولده حتى وفاته وما مر به في حياته من أحداث، ابتداء من الرسول الأعظم عليه من الصلاة والسلام الأتم، ومرورا بالصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعا، وانتهاء بالتابعين ومن تبعهم بإحسان حتى أعلام هذا الزمن من القادة الأبطال، من مشاهير الإسلام، ممن أحدث أثرا فيمن بعده، وأصبح نهجه مدرسة يحتذى بها، والأمراء والحكام في زمن مضى، أو حتى في عصرنا من شخصيات ذات قوة وتأثير.

ويزعم منتجوها ومقدموها من القنوات أن الهدف هو تعريف الأمة بأسلافها العظماء الذين كان لهم دور عظيم وأثر في التاريخ، صنعوا به الأمجاد، وسطروا به البطولات، لأن ذلك يعد نبراسا يحتذى به وشخصا يقتدى به من الجنسين.

لكن المتأمل في هذه المسلسلات يدرك أنها لا تحقق تلك الأهداف المعلنة، بل في بعضها تهدم الكثير منها، وذلك لأن ما يعرض فيها ليس هو محاسن تلك الشخصية المعنية في المسلسل، فهم كمن يدس السم في العسل، فيأتون بكثير من المساوئ والعيوب التي يدركون قبل غيرهم أنها مما تم تدليسه على تلك الشخصية، وأن العقل السليم لا يقبل تصديق نسبتها إلى الشخصية بحال من الأحوال، أو أنها مما تمت المبالغة فيه وتم تحريفه، فيعرضونها بطرق خفية، لا يدركها كنهها وعدم مصداقيتها إلا المتخصصون أو ممن قرأ التاريخ بعناية ممن لهم اطلاع وتمحيص.

وربما يتساءل القارئ عن السبب، فأقول إن المنتجين يعلمون أن الحدث السيئ يعلق بالذهن ويرتسم في الذاكرة بشكل أوضح وأكثر من الحدث الحسن، ولذا يحرصون على بث هذه الأحداث وتوزيعها على حلقات المسلسل الواحد، حتى يخرج المشاهد في نهاية المسلسل بتركة من الأحداث السيئة التي شوهت في نظره صورة تلك الشخصية، وقللت من شأنها عنده.

ولذا نجدهم يحرصون على غرائب الأخبار، وما تحار العقول في قبوله، وذلك بقصد الإثارة (أكشن)، ولفت الأنظار إلى تلك المسلسلات، كما هو دأب كل الفنون ووسائل الإعلام اليوم.

وإن كان هذا يجد قبولا في الإعلام بشكل عام، لكنه فيما يتعلق بالشخصيات مرفوض جملة وتفصيلا، فهي مجرد سير ذاتية لا تقبل الزيادة والنقصان، ويمثل ذلك كذبا صراحا على تلك الشخصيات وافتراء عليهم.

وهذه دعوة للجهات المتخصصة في التاريخ، سواء المستقلة أو الأقسام المتخصصة في جامعاتنا أو الأشخاص المعنيين بالتاريخ، للتدخل وتفنيد ما يتم بثه من خلال هذه المسلسلات بشكل علمي، سواء بالإثبات أو النفي، حماية أولا لتاريخنا المجيد وحاضرنا التليد، وصونا للشخصيات من إلصاق ما ليس منها بها، وتحصينا للجيل من تشويش الصورة الذهنية للشخصيات من خلال الكذب والافتراء عليها، فهل يتحرك الجميع؟!

[email protected]