مها الحريب

ولد الجيران

السبت - 20 أبريل 2019

Sat - 20 Apr 2019

في أحد الأحياء الهادئة في مدينة جدة عشت جزءا كبيرا من طفولتي، واستولت أزقة جدة على حيز كبير من ذاكرتي، واستحوذت على مشاعري وقلبي. سنوات طويلة مرت على انتقالي من تلك المدينة الفاتنة، تفاصيل كثيرة من طفولتي أصبحت منسية لكن ما كان منها عصيا على النسيان هو ابن الجيران أحمد، ذلك الفتى النحيل في مطلع العشرينيات الذي يحبه البعض، ويشفق عليه البعض الآخر لغرابة سلوكه، تتضارب حوله المشاعر ويختلف عليه الناس.

لم يكن أحمد بالنسبة لي مجرد ابن للجيران، فقد كنت أراه منافسا كبيرا على حب والديَ وحنانهما، كنت طفلة مدللة أشعر بالغيرة كلما رأيته يدخل منزلنا ويحظى باهتمام والدي وعطفهما، كان أحمد يثير في نفسي تساؤلات غريبة لم أجد لها أجوبة يستوعبها عقل طفلة لم يتجاوز عمرها التاسعة.

كان مختلفا عن أقرانه لا يأبه لمظهره كأي فتى في سنه، يخرج رث المظهر بالي الثياب رافضا أي تدخل من ذويه في الاهتمام بهندامه أو نظافته، تارة تراه هادئا ومنعزلا يجلس على عتبة المنزل يتحدث بصوت مسموع لأحد لم يكن موجودا، وتارة يبدو متهيجا حانقا لا يطيق أن يكلمه أحد.

كثيرا ما كنت أراه يهيم في الشوارع القريبة من بيته، أحاديثه غريبة وما يقوله يدعو للعجب على الأقل بالنسبة لي، في ذلك الوقت لم أفهم حقيقة ما يحدث معه، فقد كنت أسمع الآخرين يعقبون بعد الحديث عنه بالدعاء له بالشفاء، كنت أتساءل ما الذي يشكو منه؟ لماذا يتصرف بهذا الشكل؟

كانت معاناة أهله في السيطرة على سلوكه كبيرة ومثيرة للتعاطف، كان أحمد فتى لا ينسى، ترك في ذاكرتي أثرا لم تفلح السنوات في محوه.

حين كبرت وتخصصت في علم النفس وعملت أخصائية نفسية رأيت من الحالات ما أعادني إلى ذاك الزمن، فصرت أرى ما كان يحدث مع أحمد، كانت الأعراض التي يعاني منها تنطبق في معظمها على مرض الفصام Schizophrenia، ذلك المرض الشرس الذي ينهش في العقل والنفس أو ما يطلق عليه سرطان الأمراض النفسية لشدة كربه على المريض.

ولمن لا يعرف مرض الفصام فهو مرض ذهاني (عقلي) مزمن، يقع فيه المريض ضحية لاعتقادات وأفكار خاطئة يؤمن بها إيمانا تاما، وتسمى هذه الأفكار بالضلالات، كمن يظن أنه المهدي المنتظر أو من يظن أن هناك من يترصد له لقتله أو اختطافه وغيرها من الأفكار الخاطئة وغير المنطقية، وكثيرا ما يعاني المصاب من هلاوس سمعية (أصوات تتحدث معه باستمرار لا يسمعها سواه أو هلاوس بصرية أو شمية وغيرها)، مع كلام غير مترابط وسلوك غير ثابت، وتدهور في العلاقات الاجتماعية وفي الدراسة والعمل. وللفصام أشكال متعددة، هو باختصار مرض تنهار خلاله وظائف العقل وتتدهور الشخصية والسلوك. كثير من هذه الأعراض كانت تتجسد في ابن الجيران الذي لم يكن أحد يدرك حقيقة مرضه، فقد كان يذهب باستمرار للمعالجين الشعبيين علهم يجدون حلا لسلوكه غير المألوف، وكان تشخيصهم الدائم له بأنه مسحور.

وهذا يشبه حال كثير من المرضى الذين تضيع سنوات حياتهم وتسوء أحوالهم بسبب قلة وعي المجتمع بحقيقة المرض النفسي وشدة بطشه وتمكنه من الإنسان إذا أهمل علاجه.

مريض الفصام يحتاج من الأدوية ما يساهم في استقرار حالته، وتركه دون دواء يسهم في تدهور صحته بشكل خطير، ومن المؤسف أن الإعلام والمختصين قصروا كثيرا في توعية مجتمعنا بالأمراض النفسية وكيفية ملاحظة الأبناء والتوجه فورا للأطباء النفسيين عند ملاحظة أي تغير، مجتمعنا يا سادة لا يزال يخشى من وصمة المرض النفسي، فهو يفضل أن يقال عن أحد أبنائه إنه مسحور، فهو أمر مقبول ومستساغ، بينما يخجل من أن يوصم ابنه بمرض نفسي أو ذهاني.

كل فرد فينا يحمل على عاتقه مسؤولية التوعية بأهمية الطب النفسي وأهمية زيارة الطبيب، بعيدا عن الخجل أو الدخول في متاهات المعالجين الشعبيين. يظل المريض يعاني لفترات طويلة ومعاناته لا تتعلق به وحده، بل بذويه وكل من في دائرته من المقربين، وبعد أن يطرق أهله كل الأبواب إن أسعفهم رأي سديد قد يتوجهون للطبيب النفسي بعد أن يتمكن المرض من ابنهم، أتمنى أن نعمل جميعا لنبدد تلك الصورة القاتمة عن المرض النفسي، وما يلحق به من مغالطات وخزعبلات لا أساس لها من الصحة.

ختاما لنسهم بكلمة أو تغريدة أو نصيحة في المجالس، فكل ما نفعله لن يضيع سدى، وحتما ستثمر هذه الجهود.

@Maha_m4