محمد أحمد بابا

يلا.. نبكي

السبت - 09 مارس 2019

Sat - 09 Mar 2019

ماء العيون استراحة الباكين وحنان الخيرين وقدر الحزينين، والدموع صدقة الذين (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) ورصيف الدمع جادة الناس أجمعين جهرا وسرا، علنا وخفية، صغارا وكبارا، وفي هذا الانهمار تظهر طبائع النفوس وتُستظهر كمائن الدواخل، ومن لقاء الخلق في ميدان الدموع عدوى اجتماعية كالضحك والتصفيق والتثاؤب، فهناك دموع للدموع وبكاء للبكاء، والمتقون المؤمنون حين يلقون ربهم في ستار عباداتهم يذكرون ربهم وحدهم وتفيض أعينهم عبرة شوقا وطمعا، حبا وخوفا، فرحا وأنسا، فيجعل الله من تلك الدموع رصيف عبور لظل تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ومن نال من الدموع ذم ضعف أو وسم تعيير فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها: (إنها رحمة وضعها الله في قلوب العباد) وقد فطن عالم غيرنا لذلك في حاجيات الإنسان فجعلوا للبكاء مكانا وطقوسا ومتكئا حتى يخرج صاحب الأحزان والأكدار ما به كأنه يغسل أدرانه، والدموع رفيقة القرآن لمن يتلوه حق تلاوته، وهي قرينة الدعاء لمن تعلق قلبه بربه، وهي شاهد الفرح لأم مع فلذات كبدها، وهي عصية عن الاستبقاء لأب فقد من ذريته أحدا (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) ومسطرة الدموع جامعة النساء والرجال لمن كان له قلب سليم الفطرة حاضر التأثر، ودمع العين صحة لها ولو من غير سوء، والاستعاذة من عين لا تدمع سنة شرعية، وكم في عالم الدموع من استواء أداء ولو تعددت الأسباب، فإن قيل للإنسان كيف تكون إنسانا؟ قلت: إذا بكى، ومن تغلبه دموعه كف شره وأحسن لغيره وأنار ما بينه وما بين خالقه واستبقى لنفسه ما يرحمها بها، وفي مراقي الدموع قوم لهم مع البكاء أنين جذع حن للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم في مخالطة الدموع من يبكون خشية ربهم، ومنهم من بكى على حاله أن فرط أو تأخر، ولا تتقرح العيون من مداومة سح الدموع إلا دموع مرض، أما دموع القلوب فهي مادة الحياة وأساس البقاء، ودموع الأطفال جروح الأفئدة، ودموع الوالدين على أبنائهم خناجر الجَنان، ودموع القهر كواسر الظهر، ودمع الفقراء إنذار (للذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ودموع المظلومين رجفة الأرض، ودموع المظلومات عار القادرين، ودموع نفسك رصيف طريقك حيث تنوي، ودموع الفرح بواعث الدهشة وطريق الحمد والشكر، وصديق لصديقه يتوجه وربما يبكي معه، وإن وجدت إنسانا يبكي فلا تمنعه بل دعه ودمعه لكن خفف عليه.

وكم قال خل لخله خفية (يلا.. نبكي) فبكوا وأدمعوا وأجهشوا حتى استوت على الجادة نفوسهم انسلاخا من شوائب المكدرات فضحكوا وانصرفوا راشدين، وربي تعالى هو (الذي أضحك وأبكى) في مقابلة حقيقة أخرى أنه هو (الذي أمات وأحيا)، ولربما في الدمع حياة وفي الغلظة شبه موت.

وما وجدتني يوما حبست دمعا أو كتمت بكاء إلا ارتددت أسوأ مما كنت عليه، وكتم وكظم الغيظ منقبة لكن أسر الدموع ومغالبة البكاء طريق للعلة أو القسوة.

albabamohamad@