حوار الثمانين والفيصل

السبت - 02 مارس 2019

Sat - 02 Mar 2019

نثر خالد الفيصل في سماء الإبداع قصيدة ترحب بالثمانين عاما التي حملت الفكر النير المعتدل والقدوة الحسنة، ورافقت الشموخ والعزة والكرامة. ثمانون عاما تضرب جذورها في أرض الحرمين وتعانق عنان السماء، مشيرة إلى الأمير والشاعر والإنسان.

يا مرحبا بك يا ثمانين عمري

لوما هقيت إني أشوفك وأنا حي

خالد الإنسان يستحضر المرحلة الفكرية والروحية التي يصل لها الإنسان في سن الثمانين، فالإيمان الموقن بالله يجعله مستعدا لما تحمله الأقدار، فالأعمار والسنوات بيد القدير الجبار، إنه الإيمان الذي جعل القلب راضيا مستكينا لما كُتب وقدِّر.

تناسلت شعرات الأيام تجري

وابيضت السودا على ضامي الري

الصورة الشعرية لخالد الشاعر بارزة دوما في شعره ومتوهجة، صورة مرسومة بريشة الفنان المرافق للشاعر في كل قصيدة، الماضي من أيام العمر وسنينه وتقلبها، حلوها ومرّها، حزنها وفرحها، تناسلت سريعا وفرّت هاربة، كما فعلت شعيرات الرأس ففرّ لونها الأسود إلى البياض في سرعة لا يدركها إلا المتأمل الحكيم بتجارب الحياة، الشيب الذي يوحي بالأفول والانتهاء، الضعف الذي يمكن أن يزال باللون ويغادر.. الفيصل هنا يشير إليه، ويفخر به، نعم هو لون الحكمة ولون التجارب، هو بياض يدل على بياض الصفحة وعلى نقاء الروح، ولذلك يعايشه الفيصل ويرحب به ولا يأبه له.

الشمس تمضي وأنجم الليل تسري

وكل شيء صار في عيني شوي

هو الإيمان أن الدنيا رحلة لمستظل تحت شجرة ثم تاركها، الإيمان أن كل ما في الدنيا من متاع وكل ما فيها من زخرف هو «شوي» في نظر العقلاء والحكماء، ولا علو فيها إلا لمن قدم لدينه ودنياه وأمته وما يستحق الخلود بعد الموت، قالها وهو الأمير ابن الملك وحفيد الملوك، قول عن حياة معاشة لا كلمات تقال وتقال، وهذا ديدن العظماء فالأشياء تصغر وتحقر في أعينهم مهما عظمت في أعين غيرهم، فالرؤية أعمق وأشمل.

ابحث عن اللي يرفع الراس واشري

ما اشغلت نفسي بالملذات والغي

الله الله يا دايم السيف. ملك الكلمة وفارسها يضع الوقفة التي لا يعرفها إلا من يعرف كيف يربي الحكام والملوك أولادهم في هذا البلد العظيم، التربية على الاعتزاز بالدين ثم الملك والوطن، مسيرة مضت بالالتزام بالقيم الراسخة في الجنان والأعراف والتقاليد التي تنطلق من ديننا وعروبتنا، وهو ما ميزنا عن غيرنا، فالسيادة الحقّة تنبع من اتباع الحق والتزامه والسير في طريق الشموخ والعزة ومواطنها.

أشغلت وقتي واستفزيت عصري

أصحي الغفوات بالشمس وألفي

رسالة تقول إننا بقيمنا الحقة لنا الوجود والسيادة، بها نشرنا العلم وأشعلنا نور التقدم في العلوم والمعارف، بها نسير للعالم الأول كما سار العالم إلينا وتحفز، قيم لا تتغير مهما تغيرت الظروف، بها نصنع الحياة العصرية لنا وللبشرية. أشغلت وقتك بخدمة الوطن فكان في إمارتك لا أبهى من أبها ولا عسير في عسير، وغادرتها ومن يومها أشعلت حرائق حزن في جبال السودة والحبلة على فراق أميرها، وتحاول إطفاءها ببكائها مطرا وتنهدها ضبابا، واستبشرت بقدومك مكة والمدينة، فكانت الكعبة منطلق الحضارات نحو العالم، كانت منطقة مكة ملتقى ثقافيا مبادرا لبناء الإنسان القدوة والمعتدل. نعم الإنسان المنطلق الأول للحضارات.

أغضي.. ولكن ما تَناقَصْتْ قدري

واسْمَحْ.. ولكن ما تنازَلت عن شي

تلك رسالة صادقة من رسائل المنهج السعودي المعتدل، التواضع الذي هو منهج الأقوياء، منهج نبينا ومعلمنا وقدوتنا، منهج يتواضع في المواضع التي تتطلبه مع رسالة واضحة لا تواضع أو تنازل عن المبادئ والأعراف والقيم والحق التي يتربى عليها السعودي المؤمن على هذا التراب الغالي. اعتزاز بالنفس واحترام للغير وثبات على المبادئ والقيم.

رمت المراجل طفل.. ولكني أدري

أني أبطوي كل عسراتها طي

رسالة تختصر كثيرا من نظريات علم النفس والنمو التي تتفق على أن الاهتمام المبكر بالطفل ونشأته من أهم المراحل في بناء شخصية القائد الإنسان الذي يؤهل ليصنع الكثير ويسهم في بناء أمته وحضارتها. رسالة تحتاج من كل مرب أن يكون صبورا، وأن يبني تلك القيم في تلك السنوات الغضة للطفل، المرحلة التي عرف أجدادنا في الصحراء سرها قبل أن تكتب في صفحات العلوم ومصادر المعرفة.

درست علم الفكر والعز بدري

في مدرسة جدي وأبوي وأعمامي

ما هذا الجمال والنقاء. هو لا يريد أن يقول أنا خالد وصلت لما أنا عليه بجهدي وعملي وشخصيتي وحقّ له ذلك. لا إنه يقول: أنا تلميذ أتعلم منذ صغري وما زلت في مدرسة الشموخ والعزة مدرسة آل سعود الكرام، هو الابن والحفيد وابن الأخ. تعلم من كل هؤلاء الحكمة والرأي السديد والسياسة والحزم والعزم، رجال عظماء سادوا الدنيا بحكمتهم وعدلهم، عاش بينهم فكانت النتيجة رجلا كريما قويا يشار إليه بالبنان، إنه خالد الفيصل وكفى. الفكر كان هاجسك الأول لأنك تعلم أن أمة بلا فكر مصيرها إلى الضياع، فكنت فارس الفكر العربي وعراب مؤسسته التي سيشهد لك التاريخ تأسيسك لها ورعايتها، فكان همك الأمة العربية وفكرها أجمع.

واليوم لو ثقلت بي الرجل.. بُصري

لي عزمٍ امشي به على كل ما في

رسالة تحفيزية للمضي قدما هو ديدن الأقوياء والمنتصرين، الحياة مليئة بالعقبات والمنغصات، وإن كان التقدم في العمر وشيخوخة الجسد إحداها، كلّ العقبات لن تقف في وجه عزيز النفس المقدام، والفيصل قائدهم، حقق أهدافه وما زال، لم ينحن للعواصف التي تجتاح وتحاول أن تعوقه، فصال في الفكر العربي إصلاحا، واتجه للإنسان تنمية وتحفيزا واعتدالا، واحتوى المكان بناء وتطويرا.

أماوج المعنى على بحر شعري

وألوي قوافيها على شراعها ليّ

هي سلوتي بالعمر إذا ضاق صدري

أداوي جروحي قبل حامي الكيّ

ومن لها غير أمير الكلمة وفارسها الذي أطرب وأمتع وأنار ذائقة الشعر والأدب من خبرات السنين، طوّع الكلمة والحرف لخدمة الدين ثم المليك والوطن في زمن غاب فيه كثير من أهل اللغة والأدب. بحور الشعر وقوافيه وأخيلته وصوره هي سلوة للشاعر وأمانيه، هي حديث الروح وما يخالجها من مشاعر وأفكار وعواطف، والفيصل صنع من شعره فرحا وجمالا وحكمة وفكرا نيرا ومعتدلا وقدوة حسنة، كل ذلك تجسد في قصائد سموه الجزلة. كان فكر الفيصل وشعره حاضرين عندما كان أول من نبه وحذر من الفكر المتطرف الذي انحرف عن المنهج السعودي المعتدل المستمد من كتاب الله والسنة الصحيحة وما عليه الخلفاء الراشدون منهجا وطريقة، بعيدا عن السير في الخلاف والتشرذم والضياع. كان الفيصل أول من قرأ برؤيته الثاقبة مؤشرات الخطر الذي أشغل اليوم العالم بكل أطيافه.

أيها الفيصل، الفيصل، الفيصل.. أتدري لم الناس يحبون أن ينادوك باسم والدك الحبيب؟! لأنه الفيصل ملك العروبة وقائدها، ذلك الشهم عزيز النفس، من دافع عن عروبته ودينه عندما تخاذل الآخرون، وبقي صامدا في وجه العالم أجمع ليقول: القدس عربية وفلسطين لنا، دفع حياته ثمنا لذلك وخلده التاريخ، وجئت أنت تشبهه صورة وفعلا فأنت هو وإن غاب هو جسدا لكنه ترك روحه معك نراها في كل حين.

سيدي وأميري العمر ليس بالسنوات وتراكماتها، وإنما هو حياة تملأ بما نريد فكرا وعلما ومجدا وتاريخا. نحن صناع الحياة. هنيئا للثمانين يا ابن الفيصل كم أكرمتها وملأتها بما يستحق الخلود. إنه ابن الفيصل وكفى.

DrAlolian@