مرزوق تنباك

مراجعة التراث.. في الغرب مثلا

الثلاثاء - 26 فبراير 2019

Tue - 26 Feb 2019

تاريخ الحضارة البشرية يحمل في طيات ماضيه البعيد معارف وطقوسا وتعاليم لم يعد لها مكان في الحاضرة اليوم، ومن تلك المعارف ثقافة السحر التي كانت راسخة في تعاليم الأديان البشرية القديمة وفي عقول الأمم الماضية ومؤثرة في اعتقادهم وتصرفاتهم وأخطائهم أيضا، ولكن تجاوزت الحضارة المعاصرة الطلاسم والخزعبلات، وليس ذلك فحسب، بل بدأت الأمم الراشدة من العالم تراجع ماضيها البعيد وثقافته، وتحاكم ذلك الماضي وتلك القرون وتصحح ما وقع فيها من أخطاء في حق الثقافة نفسها أو حتى في حق البشر الذين ذهبوا ضحية طلاسم السحرة أو أوهام المحاربين للسحر والمطاردين لأعماله، ومن تلك المراجعات ما حدث في سويسرا قبل سنوات قليلة حين أعادت محاكمة امرأة تمت محاكمتها بتهمة السحر قبل 236 سنة أي في عام 1782م.

وملخصها أن السيدة (آن قولدي) قد جلبها حظها التعيس لتعمل خادمة في بيت محام مشهور هو السيد (يوهان تشاودي) في منطقة (غلاروس) التي أصبحت ضمن الاتحاد السويسري اليوم، وكانت الكنيسة قد نشطت في آخر أيامها للفت الأنظار عن واقعها المتردي وفقدانها لمصداقيتها الدينية، فحاولت التعويض أو شد الناس إليها بإعلانها الحرب على ما تسميه السحرة والمشعوذين ومن يتعاملون بالطلاسم والأوهام، تطاردهم وتحاكمهم وتحرقهم وتسرف في ذلك، محاولة لإرضاء الغوغاء الذين يصفقون لنشاطها الكنسي، فاستغل الأذكياء وأصحاب المصالح ذلك النشاط وسخروه لمصالحهم ومنافعهم، وكان من هؤلاء المحامي يوهان تشاودي الذي وقع في علاقة غير مشروعة مع خادمته آن قولدي، فلما شعر بخطر افتضاح علاقته بها اتهمها بالسحر والضرر الذي أصابه، ولم تستطع الخادمة الضعيفة مقاومة حججه أمام القضاء المؤدلج الذي يميل ضد تهم السحرة، فرفع دعوى السحر على الخادمة التي هربت من بيته خوفا من المصير المحتوم، فاتخذ هربها دليلا على صحة دعواه، وصدقت المحكمة تعاطيها للسحر والضرر بسيدها، ولم تستطع أن تواجه حجج محام متمرس مشهور وشخص مقدر في وطنه وقوي في حجته مهما قويت أسباب براءتها ومهما كان باطل دعوى السحر، فانتزع القضاء روح المرأة المسكينة وأسكت صوتها إلى الأبد. لم يمح مرور أكثر من مئتي سنة روح العدالة ويقظة الضمير الإنساني، فأعيدت المحاكمة من جديد قبل سبع سنوات واتضحت الحقيقة وأنصفت الضحية ورفع لها نصب براءة في ميدان القرية التي شهدت تلك الأحداث.

الشاهد من هذا أن مراجعة الماضي وتاريخه ليست عبثا في حد ذاتها، ففي تراث الأمم من الأخطاء والمظالم مثلما في حاضرها، والأموات ومن طواهم التاريخ يستحقون العدالة والإنصاف الذي يكشف الظلم عنهم ويبرئ ساحتهم ويدين الظلمة وأهل الباطل والبغي منهم ولو كانوا أمواتا، فالحقائق لا تسقط بالتقادم، وهذا ما فعله سكان إقليم (غلاروس) قبل سبع سنوات حين أعادوا محاكمة تراثهم وتاريخهم وحققوا العدالة للمظلوم فثبتت براءة السيدة آن وانتصرت العدالة بعد مضي الزمن الطويل على أحداثها، ولم يكتفوا بالبراءة، بل أقاموا متحفا يحكي قصتها ويصور مأساتها ويدين الذين يصابون بلوثة تصديق الأوهام، وجمعوا فيه كل ما يتعلق بمحاكمتها وقصاصات الصحف في ذلك الزمان التي كانت تنشر الإعلانات لمطاردتها وللقبض عليها ومحاكمتها.

كل ثقافات العالم فيها شيء يمكن محاكمته وتركه ويمكن تجاوزه والاعتذار منه، وفيها شيء يمكن نشره وذكره والاحتفاظ به وتجديده، والمهم أن يعرف كل أهل ثقافة وحضارة ما هو الذي يطمر ويعتذر منه، وما هو الذي ينشر ويفتخر به.

Mtenback@