الابنة الذكية..

السبت - 02 فبراير 2019

Sat - 02 Feb 2019

قبل عقود من الزمن كانت هناك طفلة في الربيع الخامس من عمرها، فصيحة وفطنة، كثيرة الحركة تعلمت ثلاث لغات في وقت واحد وحفظت جزءا كاملا من القرآن الكريم في بضعة أشهر وهي لم تكمل عامها السادس، في واحدة من أعرق مدارس المدينة المنورة تدعى مدارس دار التربية الإسلامية لصاحبها رائد التعليم الدكتور محمد ظافر رحمه الله الذي عرف بشغفه بالقرآن والتعليم بشكل عام. وفي سنتها الدراسية الأولى تلقت تعليم القرآن على يد شيخ ضرير داخل المدرسة، يقوم بتحفيظ جميع الطالبات بشكل يومي، فكانت الطفلة تردد ما حفظته من السور على والدها الذي يأتي يوميا لاصطحابها من المدرسة ويستمع لها بكل إعجاب ويغرقها بنظرات الفخر، ويبتسم أمامها ويقول: لدي ابنة ذكية جدا، فتبتسم ببراءة وتشعر بالثقة، فكانت تلك المدرسة نقطة البداية.

أصبح إخوتها يرددون على مسامعها بين حين وآخر عبارة والدهم «الأخت الذكية»، كبرت تلك الطفلة وهي لا تعلم عن نفسها شيئا إلا ذكاءها، وحب الإصرار والوصول إلى مرادها يكبر شيئا فشيئا.

اجتازت المراحل الدراسية جميعا بتفوق محققة أعلى نسب النجاح، وفي كل نجاح يكرر والدها نظرات الفخر والإعجاب بها حتى استطاعت في الصف الثالث الثانوي في اختبار مادة الرياضيات حل معادلة من خارج المنهج الدراسي لإصرارها على المحاولة وثقتها بما يمكن أن تقدمه.

تقدمت بعدها لدراسة الماجستير في الولايات المتحدة في واحدة من أفضل الجامعات في ولايتها، وهي أم مغتربة لطفلين رضيعين، مع نصيحة البعض بالابتعاد عن تلك الجامعة لصعوبة الدراسة، ولكن يقينها بالله وثقتها بنفسها جعلاها تتخرج فيها بشهادة الماجستير بمعدل مرتفع جدا، مع العمل والتدريب في معهد اللغة التابع للجامعة، وحصلت على شهادة تكريم من مديرة المعهد لتطبيقها فكرة حديثة في التعليم الالكتروني وتدريب أستاذة المعهد على استخدام التقنيات الحديثة في التعليم، وخطاب شكر ينص على هذه الكلمات «فخورة بك وبعملك معنا، لا أصدق كونك طالبة لدينا وفي أقل من سنتين أصبحت مدربة للأساتذة الذين درسوك».

عادت إلى أرض الوطن وتدرجت في وظائف عدة بما يخص مجالها في القطاع التعليمي. هي اليوم أكاديمية ومشرفة على برامج تعليمية عدة معتمدة، تضع بصمتها في كل عمل مقتبسة الأفكار من بحثها العلمي المنشور مؤخرا بمجلة علمية محكمة، ولديها العديد من المبادرات التي تخص تطوير التعليم في وطنها، وتثق تماما من قدرتها على تحقيقها.

نعم لقد كبرت تلك الطفلة وأصبحت ناضجة في العقد الثالث من العمر، وهي اليوم صاحبة هذا القلم تلخص لكم في هذه المقالة رسالة مهمة لكل أب وأم:

مارسوا مع أبنائكم عادات الرعاية من التشجيع والدعم والمدح الوصفي والحقيقي للجهد المبذول. تلك العادات التي تسهم في بناء علاقة قوية معهم وتعمل على رسم صورة ذهنية إيجابية يكونها الأبناء عن أنفسهم، وتجنبوا قدر الإمكان في تعاملكم معهم تلك العادات المدمرة من النقد واللوم والتذمر والتهديد. فهي بمثابة حاجز منيع يمنعهم من الإنجاز.

استخدموا النقد البناء فقط عند الحاجة لذلك، وتذكروا دائما أن المدح والتشجيع ونظراتكم المعززة بالفخر والإعجاب قد تصنع الفرق في مستقبلهم.

وقد أكد عدد من العلماء أن مدح جهود الأبناء يعزز مهاراتهم في مواجهة تحديات المستقبل، ويطور من سلوكهم المرغوب فيه. وكذلك أكد اختصاصيو علم نفس الطفل والمراهقة أن المديح والتشجيع جزء أساسي من التواصل اليومي بين الأهل والأبناء، بغض النظر عن أعمارهم، فالعبارات التي يوجهها الأهل إلى أبنائهم تصبح جزءا من شخصيتهم.

ختاما إن أجمل ما أقدمه لأبنائي اليوم هو مدح ذكائهم أمامهم وأن أشعر بنظرات الثقة والسعادة في أعينهم، تلك التي شعرت بها وأنا في أعمارهم. ولا أعلم حتى اليوم هل أنا ذكية جدا بالفعل أم إن نظرات والدي ووصفي بالابنة الذكية هي من جعلتني أتصرف كما لو كنت كذلك.